بقلم ألفة البعزاوي
تعيش المنطقة العربية والمغاربية في السنوات الأخيرة على وقع تطورات تجري بنسق جنوني بدءا بالموجتين الأولى والثانية لما سمّي بثورات الربيع العربي وما أحدثته من تعديلات تهمّ موازين القوى واللاعبين الأساسيين في المنطقة وصولا إلى 7 أكتوبر ومعركة طوفان الأقصى وصمود المقاومة في وجه الكيان الصهيوني الغاصب متبوعة باتفاق وقف الحرب بين الكيان الصهيوني والمقاومة في لبنان واتفاق وقف إطلاق النار بين الكيان وحماس وما تضمّنه كلا الاتفاقان من بنود. ينضاف إلى ذلك سقوط نظم بشار الأسد على يد مجموعة من الفصائل الإرهابية المسلحة بقيادة “هيئة تحرير الشام” التي استولت على الحكم في سوريا.
هذه التغيرات والأحداث المتسارعة في منطقة تعد من أهم حلبات صراع النفوذ بين مختلف القوى الامبريالية، القديم منها (الولايات المتحدة والدول الأوروبية) والحديث (روسيا العائدة والصين الصاعدة)، إضافة إلى منطقة شرق القارة الأوروبية ومنطقة بحر الصين، تحدث بشكل تتضارب فيه مصالح القوى المتصارعة ووكلائها في ملفات وتتقاطع في أخرى مما يعقد إمكانية متابعة تأثيرات ونتائج كل هذه الأحداث على أدوار مختلف القوى المتداخلة في المنطقة.
يندرج هذا المقال، إلى جانب مقالات أخرى، في محاولة لتدقيق الأوضاع في المنطقة ومتابعة تطور نفوذ هذه القوى المتداخلة وارتباطاتها.
وتعتبر إيران أحد أبرز الفاعلين الإقليميين. وقد عملت على تعزيز دورها ومكانتها وتأثيرها في المنطقة بما يفرض على القوى الأخرى، إقليمية كانت أو دولية، أن تحسب لها ألف حساب في أي تدخل قد تقدم عليه وذلك من خلال تدخل متشعب ومتعدد المستويات حتى يتسنى لها إعادة تشكيل المنطقة بما يزيد من تأثيرها ويخدم مشروعها التوسعي. وقد اعتمدت في ذلك على سياسة خارجية متقلبة ومتحولة حتى أن العديد من المتابعين يصف السياسة الخارجية الإيرانية بالغموض والاستعصاء عن الفهم. لكن هذه السياسة الخارجية حافظت في كل الأحوال على سمة ثابتة وهي تطويع العلاقات الدولية لفائدة مصالح إيران الحيوية. فبعد فترة من “الوئام” مع الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة حكم ‘الشاه’ عندما مثلت قوة مدعومة من أمريكا وتدخلت بشكل مباشر وغير مباشر في كل من العراق واليمن وعمان وباكستان… جاءت الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979 مصحوبة ببداية التغيرات في علاقاتها الدولية. فقد تعللت الولايات المتحدة بحادثة الرهائن آنذاك لتغيير سياستها تجاه إيران ومرّت إلى التصادم معها. غير أن خلفيات هذا التغيير أبعد من ذلك بكثير خاصة أن المنطقة شهدت في تلك الفترة تغيرات سياسية هامة من قبيل صعود نظم إسلامية في تركيا وباكستان… وتعارض أيديولوجيا الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومشروعها التوسعي تحت مسمى “تصدير الثورة” بالمصالح السياسية للعديد من أقطار المنطقة، ما دفع بالولايات المتحدة إلى إعادة النظر في ترتيباتها وسياساتها وحلفائها بما يرعى مصالحها بشكل أفضل في تلك الأوضاع المستجدة. وتجدر الإشارة إلى أنه رغم هذا التصادم، فقد شهد الطرفان تقاربا في سياق التصادم نتج عن التقاء المصالح في أكثر من ملف على غرار الحرب العراقية الإيرانية والغزو الأمريكي لأفغانستان.
في الفترة اللاحقة استغلت إيران التركيز الأمريكي على العراق وغزو الولايات المتحدة للعراق لترميم أوضاعها الاقتصادية والعسكرية التي تأثرت بشكل كبير عقب حرب الخليج.
وحافظت الجمهورية الإسلامية الإيرانية على أهدافها السياسية وعملها على تعزيز مكانتها ونفوذها حتى تصبح القوة العظمى الأكثر تأثيرا وصاحبة الكلمة العليا في المنطقة. وهو ما يتعارض مع المشروع الأمريكي-الصهيوني الذي لا يمكنه على أية حال أن يسمح لإيران سوى بشيء من النفوذ أو الدور المشروط. ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، وضعت إيران استراتيجية مزدوجة. فمن جهة عملت على تعزيز قوة الردع خاصة بتعزيز قوتها العسكرية من خلال تصنيع الصواريخ والطائرات المسيرة… وصولا إلى السعي إلى امتلاك السلاح النووي مما سيمنحها قوة جبارة في منطقة تفتقر أغلب دولها إلى إمكانيات عسكرية مماثلة ويجعلها ندا لأقوى دول المنطقة وعلى رأسها دولة العصابات الصهيونية. وهو ما يفسر المساعي الحثيثة لأمريكا وإسرائيل للحيلولة دون ذلك من خلال العقوبات المسلطة على إيران أو التفاوض بشأن ملفها النووي مع إشراك قوى أخرى.
من جهة ثانية تعتمد الاستراتيجية الإيرانية على ما يصطلح على تسميته بـ “القوة الناعمة” وذلك من خلال تطوير قوات متعددة بالوكالة تضمن لها التغلغل في المنطقة وتنامي أدوارها السياسية والعسكرية بها. إذ قامت على مدى عقود من الزمن بدعم وتطوير العديد من التنظيمات المسلحة في مختلف الأقطار العربية ودعم الفصائل الشيعية بها على غرار العراق، اليمن، لبنان… كما نجحت بتحالفها مع نظام بشار الأسد في الوصول إلى الأراضي السورية التي تعتبر إحدى أهم ساحات التصادم مع المشروع الأمريكي-الصهيوني وورقة ضغط هامة في صراع النفوذ معه. وقد هوجمت إيران كثيرا على خلفية الدور الذي لعبته في سوريا ومساندتها و’حزب الله’ لنظام بشار الدموي ضد شعبه عقب اندلاع انتفاضات الربيع العربي في موجتها الأولى سنة 2011 فكان خطاب “الممانعة” هو الرد الذي وجدته إيران لتبرير موقفها باعتبار سوريا-بشار نظام ممانع للمشروع الأمريكي-الصهيوني. وهي ذات الحجة التي اعتمدتها إيران بدعمها لحركات إسلامية سنية في فلسطين على غرار “حركة حماس” و”حركة الجهاد الإسلامي” اللتان تعتبران اليد المؤثرة لإيران في القضية الفلسطينية.
وهذا الوجه الممانع تدعم أكثر بعد هجوم 7 أكتوبر وطوال معركة طوفان الأقصى من خلال الضربات التي وجهها حلفاء إيران لا ضد الكيان الصهيوني فقط مثل جبهة جنوب لبنان بل ضد الولايات المتحدة وقواتها في سوريا والعراق وهجمات الحوثيين على حركة الشحن في البحر الأحمر إضافة إلى هجماتهم بالصواريخ والطائرات المسيرة على العصابات الصهيونية الإحرامية في غزة.
إن هذا الدور الذي تريد إيران أن تلعبه في المنطقة في تصادم مع المصالح والمشروع الأمريكي-الصهيوني يتطلب أن يكون لها حلفاء دوليين لدعم نفوذها الإقليمي وضمان أمنها القومي ومساعدتها على تطوير اقتصادها وسط إعادة سياسة سنّ العقوبات الاقتصادية ضدها وزيادة عدد هذه العقوبات لتصل إلى 700 عقوبة في 2018 مع انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران خلال الولاية الأولى لـ “دونالد ترامب”، ومن بينها مثلا عقوبة تقضي بمقاطعة النفط الإيراني كليا.
فعملت في البداية على عقد شراكات مع بعض الدول الأوروبية لكن هذه الأخيرة بقيت محكومة إلى حد كبير بموقف الولايات المتحدة ودولة الكيان الصهيوني من إيران وسياستها في المنطقة. أيضا، ركزت إيران على تطوير علاقات اقتصادية مع دول المنطقة وخاصة التي لها بها نفوذ من خلال وكلائها على غرار سوريا والعراق وأدارت جيدا ما يصطلح على تسميته باقتصاد الأزمة.
من ثمة استغلت إيران احتداد التناقضات الدولية بين الدول الكبرى وأساسا أمريكا وروسيا والصين لإيجاد منافذ لاقتصادها. ونتحدث هنا أساسا عن تعاون روسي-إيراني تطور ليصبح فيما بعد تعاونا روسيا-إيرانيا-صينيا على غرار الاتفاق مع الصين على تصدير النفط الإيراني.
ومن بين العوامل التي حفزت التعاون الروسي الإيراني هو التقاؤهما في التصادم مع المصالح الأمريكية في ساحات منعزلة عن بعضها البعض (أوروبا والشرق الأوسط) وفي الساحة المشتركة السورية بعيد الانتفاضة في 2011 والذي انطلق في البداية كتعاون تكتيكي يهم أساسا التنسيق العسكري للتدخل في سوريا وتطور مع قرار موسكو 2015 إلى شراكة دفاعية كاملة تضم ما هو عسكري مثل عمليات النقل العسكري وتبادل التكنولوجيا الدفاعية ناهيك أن روسيا اعتمدت في حربها ضد أوكرانيا على الطائرات المسيرة إيرانية المنشأ. كما تضم هذه الشراكة جوانب غير عسكرية تضمنتها اتفاقية الشراكة المبرمة بين الدولتين سنة 2001 والتي شملت علاقات في مجال الطاقة والبنية التحتية وزيادة العلاقات التجارية وصولا إلى ربط مباشر بين النظامين المصرفيين لكلا البلدين من خلال بدائل عن نظام المراسلات الدولية المالية والعمل على إلغاء اعتماد تجارتهما على الدولار.
واليوم وبعد إبرام اتفاقي وقف الحرب في لبنان ووقف إطلاق النار في غزة والتغيرات الكبيرة التي أحدثتها عملية طوفان الأقصى وتأثيرها لا فقط في منطقة الشرق الأوسط بل أيضا على الموازنات السياسية والاقتصادية والعسكرية عبر العالم، ومع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا يمكن أن نتدارس بروية انعكاساتها على النفوذ الإيراني ومن خلفه الروسي في الشرق الأوسط. إذ ذهب العديد إلى الإقرار بتراجع هذا النفوذ بل وإلى أن إيران ومحور المقاومة سيشهدان انتكاسة بعد سقوط سوريا في أيدي قوة رجعية موالية للمشروع الأمريكي-الصهيوني…
من جهة يجب الإقرار أن موازين القوى بعد معركة طوفان الأقصى قد تغيرت لغير صالح إيران وحلفائها إذ تراجعت قدرات ‘حزب الله’ في لبنان و’حماس’ في غزة وكذلك خسارة قادة عظماء في كلا التنظيمين إضافة إلى التهديدات الإسرائيلية للنظام الجديد في سوريا بهدف غلق خط إمداد إيران حلفاءها بالأسلحة عبر الأراضي السورية…
إلا أنه من جهة ثانية يجب النظر إلى جوانب أخرى لا تقل أهمية ومن ذلك الصلابة التنظيمية لكل من ‘حزب الله’ و’حماس’ وقوة قناعاتهما الأيديولوجية الراسخة التي تخول لهما صناعة قيادات قادرة على مواصلة المشروع بنفس الثبات والوضوح. إضافة إلى ذلك فقد طور هذان التنظيمان قدرة عالية على صناعة الأسلحة محليا بالاعتماد على التكنولوجيا الإيرانية وتطويرها، ففي قطاع محاصر منذ عقود استطاعت ‘حماس’ تطوير أسلحة تغلبت على التقنية العالية للسلاح الإسرائيلي وكسرت أسطورة ‘الجيش الذي لا يقهر’ الذي طالما ما تمّ الترويج لها.
كما أن إيران باتت تواجه اليوم العديد من التحديات والأسئلة الصعبة، ما يدفع بطهران ضرورة إلى تغيير استراتيجيتها وإعادة النظر غي أولوياتها بما يسمح لها بالتعامل مع هذه المتغيرات. ناهيك أن روسيا جددت توقيع اتفاق الشراكة بينها وبين إيران قبل تنصيب “ترامب” بثلاثة أيام وبعد سقوط نظام بشار الأسد بشهر ونصف في رسالة واضحة مفادها عدم التشبث بدعم حليفها الاستراتيجي في المنطقة.
كما أفاد وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” في مؤتمر صحفي أن روسيا “لم ولن تغادر الشرق الأوسط”. ورغم نقل العديد من القوات العسكرية الروسية من قاعدتيها في سوريا إلى ليبيا، فقد أكد “لافروف” استعداد بلاده للتعاون في الملف السوري مع تركيا وإيران والعراق ولبنان وبالطبع وبقطع النظر عن دعم روسيا في السابق للأسد، فان المصالح هي ما سيحدد علاقتها بالقيادة السورية الجديدة خاصة بامتلاكها لأوراق ضغط من قبيل عضويتها الدائمة في مجلس الأمن وإمكانية تقديم الدعم في مجالات حيوية مثل إعادة الإعمار بعد التدمير الكبير الذي شهدته سوريا.
وفي النهاية، يبدو جليا أن المنطقة مفتوحة على سيناريوهات عديدة وأن تراجع نفوذ كل قوة من القوى المتداخلة لا يمكن اعتباره بأي حال من الأحوال نهاية.