بقلم جيلاني الهمامي
تمّت احتفالات غرة ماي كما كان متوقعا دون مفاجآت تذكر. فقد احتضنت ساحة محمد علي كل الأطياف ابتداء من المنظمين الرسميين، أي قيادة المنظمة الشغيلة، إلى بقايا بعض الأطراف التي كانت في زمن غير بعيد تتحرش بالاتحاد وحشدت أتباعها للهجوم عليه وإلقاء أكداس القمامة في ساحته. وكان الطرف الأبرز من حيث الوجود العددي ومن حيث الحركية والتأثير في فعاليات الاحتفال هو ما يمكن الاصطلاح عليه بائتلاف القوى السياسية والمدنية، أحزابا وجمعيات، الذين وفدوا على بطحاء محمد علي بعد تجمّع خاطف أمام مقر المحكمة الإدارية بنهج روما. فوجودهم هو الذي أضفى على التجمع جماهيريته وحركيته وحراراته.
واتضح من وراء ذلك حالة الضعف الكبير التي باتت عليها قدرة الاتحاد على التعبئة. وهو أمر مفهوم بالنظر للوضعية التي يمرّ بها الاتحاد بعد أكثر من سنتين من العطالة والفراغ انضافت إليها في الأشهر الأخيرة (منذ أكثر من نصف عام) الأزمة الحادة التي عاشها الاتحاد داخليا والتي تجسّمت أساسا في انقسام المكتب التنفيذي إلى شقّين (الخمسة والعشرة). مجمل هذه الأسباب أثرت سلبا في سمعة الاتحاد ومصداقيته ونفّرت أوساطا واسعة من العمال والنقابيين من مختلف القطاعات (الوظيفة العمومية والقطاع العام والقطاع الخاص) من تلبية نداء القيادة النقابية. وإلى جانب ذلك ساهمت حملات التهجم على الاتحاد وعلى قيادته وتناقل الأخبار حول ملفات الفساد وما إلى ذلك في تنفير العمال بحيث أصبح من الصعب على القيادة ضمان حضور جماهيري كبير كما كان يحصل في السابق حتى في مناسبة كمناسبة عيد العمال العالمي. وأخيرا فإن قرارا بقية الجهات الأخرى تنظيم احتفالات غرة ماي على مستوى جهوي (صفاقس، قفصة) أفقد التجمع المركزي في بطحاء محمد القدرة على تأمين حضور جماهيري واسع.
الأمين العام يخطب في جمهور غير جمهوره
لذلك كان الأمين العام في خطابه وكأنه يخطب في غير قواعده بما أنّ الغالبية العظمى من الحضور هي من قواعد الأحزاب والجمعيات والمنظمات. حتى الحضور العمالي والنقابي الذي واكب خطابه كان منقسما بين مؤيدين ومعارضين. وفي ضوء ذلك وجد الأمين العام صعوبة في التحكم في “الغليان” والشعارات المتنوعة والحماس الكبير الذي طغى على ردهات كبيرة من التجمّع. ومن ناحية أخرى فقد كان خطاب الأمين العام في وادي والشعارات المرفوعة في وادي آخر.
فلئن ركّز الأمين العام على توصيف الوضع (وهو توصيف لا يبعد عما يتداوله الوسط المعارض لقيس سعيد) فقد تميزت الشعارات المرفوعة بطابعها الحاد والمباشر ضدّ السلطة وضدّ قيس سعيد شخصيا. ويبدو من خلال سلوك الطبوبي أنه تقرر في مستوى المكتب التنفيذي عدم الاكتراث بما يجري في الساحة والاسترسال في إلقاء كلمته وهو ما حصل فعلا بشكل لم يتسنى لأيّ كان لا الاستماع لما كان بصدد قوله ولا التركيز معه.
جاء خطاب الأمين العام خطابا “توصيفيا” للأوضاع العامة التي تعيشها البلاد على جميع الأصعدة وتحاشى كلما تعلق الأمر بالوضع السياسي التعرّض لمسألة المطالبة بإطلاق سراح المساجين السياسيين. واستعرض المحاولات التي قام بها الاتحاد من أجل توفير أرضية تعامل جدية بين الاتحاد والحكومة وأطنب في التشكي من تجاوزات الحكومة فيما يتعلق بالحقوق النقابية وخاصة الدّوس على الحق النقابي ونسف أسس السياسة التعاقدية وتعطّل المفاوضات الاجتماعية لسنوات طويلة جرت أثناءها انتهاكات كثيرة وخطيرة. في الأثناء كانت الشعارات سياسية ومعارضة دعت إلى إسقاط النظام (الشعب يريد إسقاط النظام) وتوجّهت رأسا إلى قيس سعيد (فاشل فاشل الرئيس يحكم فينا بالبوليس، يا عساس الطليان هات الليقة والسيمان، فاشلة المنظومة من قيس للحكومة) ورفعت مطالب واضحة ودقيقة (شادين شادين في سراح الموقوفين، شلكتوه الإرهاب سيّب سيّب أحمد صواب الخ…).
وكان نسق تفكير القيادة والأمين العام الناطق باسمها في اتجاه غير اتجاه نسق التفكير والروح المعنوية السائدة في البطحاء. وبطبيعة الحال لا يمكن أن نتناسى الشعارات المناوئة التي رفعتها عناصر “المعارضة النقابية” والتي انخرطت في البعض منها الجماهير الشبابية والسياسية الحاضرة.
تجمّع غرة ماي وبعد…
أَعلن الأمين العام في خاتمة خطابه على انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي (انطلقت في الحقيقة يوم 9 ماي) وهي النقطة الوحيدة تقريبا التي فتحت على المستقبل ذلك أنّ خطابه جاء خاليا من أيّ برنامج أو خطة للمستقبل. وبطبيعة الحال لا حديث عن الأزمة والانقسام وما آل إليه والخُطّة المَوْضوعة لتجاوزه. وفي المقابل من ذلك لم يذكر شيئا بخصوص أسلوب المرور بقوة الذي اعتمدته السلطة بخصوص تنقيح مجلة الشغل عدا “العتاب” و”التباكي” على عدم احترام نواميس الحوار الاجتماعي والقوانين المتصلة به.
ومعلوم أنّ الأمين العام وعموم القيادة النقابية يبرّرون سياسة المهادنة بتعلة تخلف الوعي النقابي وغياب الظروف اللازمة للدخول في مواجهة مع قيس سعيد معتبرين أنّ ظروف اليوم تختلف عن ظروف 1978. ويعتبرون أنّ أيّ دعوة للتصدي لسياسات قيس سعيد ومساعيه لتهميش المنظمة مزايدة لا طائل من ورائها.
من ناحية أخرى أحجم الأمين العام عن الحديث عن مآل الانقسام الذي يشق المكتب التنفيذي الذي يتولّى فيه المسؤولية الأولى. ويعلم كل من يتابع الأوضاع النقابية أنّ المكتب التنفيذي عاد للاجتماع بحضور كافة أعضائه بعد أكثر من تسعة أشهر من القطيعة والجفاء. ولا أحد يعلم ما إذا كان ذلك دليل على تجاوز الأزمة وعودة الوئام أو أنّ في الأمر شيء آخر. وكان على السيد الطبوبي بحكم موقعه أن ينير الرأي العام بل كان من واجبه أن يستغل هذه الفرصة، فرصة الاحتفال بعيد العمال، التي يلتقي فيها بقواعد المنظمة ليطلعهم على حال منظمتهم وآخر ما استجد في أوضاعها الداخلية والتي أصبحت أخبار أزمتها على كل لسان.
الهيئة الإدارية واحتمالات الأيام القادمة
شيء من هذا لم يقع. وانصرفت الجموع إلى مسيرة العادة بشارع الثورة، شارع الحبيب بورقيبة. وظلت أنظار النقابيين العارفين بشؤون المنظمة والمهتمين بها مشدودة إلى يومي 21 و22 ماي الجاري تاريخ انعقاد الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد التي لم تنعقد منذ الصائفة الماضية. والتي يمثل انعقادها في حدّ ذاته حدثا على غاية من الأهمية. ففيه استجابة لمطلب “الخماسي الغاضب” وبالتالي قد يكون سببا في تخفيف حالة الاحتقان داخل المكتب التنفيذي، ومن شأنه أن يبعث أيضا رسالة إلى أعضاء الهيئة الإدارية ومن ورائهم عموم الهياكل والقواعد بدخول حلّ المصالحة حيز التنفيذ.
ورغم أنّ هذه الرسائل ستظل محل شك إلى غاية انطلاق أشغال الهيئة الإدارية فقد انطلقت التخمينات بخصوص مضمون المصالحة وبنودها. وقد راج على نطاق واسع في الأوساط النقابية أنّ طرفا النزاع قد التقيا حول موعد المؤتمر الوطني القادم في شهر جانفي من السنة القادمة 2026. وبصرف النظر عمّا إذا ستقع تسميته “مؤتمرا استثنائيا” أم سيوضع في خانة “تقديم المؤتمر الوطني”، وهي معركة شكلية يمكن أن تخوض فيها الهيئة الإدارية حسب ما يروج، فإن هذا التاريخ يبدو حلا وسطا لا يثير خلافات كبيرة وقد يحوز بسهولة على الوفاق داخل المكتب التنفيذي وحتى داخل الهيئة الإدارية.
وإذا صحّت كل هذه التوقعات هل بمقدورنا القول أنّ الاتحاد قد تجاوز أزمته؟
من السابق لأوانه الجزم بذلك لأن الوفاق حول المؤتمر الاستثنائي هو حلّ لخلاف يخفي وراءه خلافا آخر وحالما سيقع الاتفاق في شأنه سيمرّر “المشعل” لخلاف بعده وهكذا دواليك حتى انعقاد المؤتمر. وممّا لا شك فيه أنّ التوصّل إلى اتفاق بخصوص موعد المؤتمر القادم سيطلق العنان لكل من المجموعتين المتصارعتين للشروع في إعداد العدة للمؤتمر وخاصة الفريق القيادي والأمانة العامة القادمين. لأنه لا ينبغي أن ننسى أنّ معركة المواقع تبقى هي في نهاية المطاف “أمّ المعارك” بالنسبة للبيروقراطية النقابية.