الرئيسية / أقلام / ما الذي يحدث على عتبة – الله الاسلامي – ؟ بقلم أم الزين بنشيخة
ما الذي يحدث على عتبة – الله الاسلامي – ؟ بقلم أم الزين بنشيخة

ما الذي يحدث على عتبة – الله الاسلامي – ؟ بقلم أم الزين بنشيخة

168539_329809530428213_2083808246_n

 بقلم أم الزين بنشيخة

” انّ العودة الى الأصول تؤدّي في كل مكان الى البربرية ” نيتشه

تقديم :
حين تصمت الدماء عن حقّها في الصراخ عاليا في وجوه المتعطّشين الى الدماء ..يُكتب التاريخ من جهة مغايرة لما حدث و لم لم يحدث ..و لم سيحدث على نحو أفظع ..للآلهة أيضا حقّها في التحرّر من تجّار اللاهوت الأسود ..نيتشه قال ذات نصّ :” انّنا لن نتخلّص من الآلهة ..لأنّها تسكن النحو”..لكنّ العالم العربي ليس له مشكلة مع الله انّما مشكلته هي تجّار الله ..الذين يقتلون تحت راية الله و يقطفون الرؤوس باسمه …
يقول روبيسبيار (1758-1794) :” انّ الثورة ..ليست الاّ الانتقال من مملكة الجريمة الى مملكة العدالة “.. ما مدى صحّة هذا الكلام في ضوء “الثورات العربية “؟ بعد حدوث ما حدث من قتل و ذبح و تنكيل بالشعوب ؟ هل نقول أنّ ما يحصل بعد الثورة يكاد يكون معكوسا في معنى تحوّلنا الى ركح الجريمة بامتياز؟ أم نقول أنّ الثورة أمر مشكوك فيه كما تريد لذلك نظريات المؤامرة أن تكون ؟ ثمّة من يقول أنّ ما وقع في العالم منذ تفجير البرجين التوأمين للتجارة العالمية سنة 2001 هو انحدار العالم برمّته الى عصر جديد : هو ” عصر صدام الحضارات”( هينتغتون ) أو عصر صدام الأصوليات (جلبرت الأشقر) أو حتى ” عصر التطرّف ” ( اريك هوبزباوم) ..لكنّ بوسعنا أن نقول أيضا أنّه اذا كان الغرب يعاني منذ قرن من الزمن من انهيار معنى العالم ، فانّ الاسلاميين منذ واقعة 11 سبتمبر و تفجيرهم لمركز التجارة العالمية انّما عبّروا بحرق العالم و بقتل العالميين عن رغبتهم الدفينة في ألاّ يكون ثمّة عالم أصلا ..
هل ثمّة فرق بين ما يُسمّى ارهابا عالميا تحت راية تنظيم القاعدة ، و الاسلام السياسي الذي يتمسّك بالسلطة في بلاد “الربيع العربي” تحت راية شرعية انتخابية انتهت صلاحياتها بفشلها في ادارة الانتقال الديمقراطي ؟ هل ثمّة شرعية ..بعد الدماء …هل ثمّة شرعية دموية ..؟ هل ثمّة شرعية لسقوط ضحايا تحت راية الاسلام السياسي ؟ لا شيء يبرّر القتل حتى السياسات الالاهية ..و لا شيء يبرّر سقوط الضحايا غير السياسات الفاشية ..
ما هو الاسلام السياسي ؟ و الى أيّة جغرافيا حزينة يجرفنا في عصر يقف فيه الوطن العربي على حافة الكارثة ؟ لم نعد قادرين على التفكير في صخب ما يحدث الاّ و نحن مفزوعون ممّ سوف يحدث على نحو أفظع .و يصيبنا الهلع الجماعي من رؤية الجثث تتساقط كل يوم كما لو صا ر البشر في ديارنا الى ذباب ..كل ذلك تحت راية الله ، و باسم شرع الله و دول الله ..ما الذي يحدث لنا ؟ و أيّة لعنة الاهية تصيب شعوب الله و أحزاب الله و حكومات الله ؟ أو تكون هذه الشعوب الواقفة على عتبة الله الاسلامي قد تحوّلت فجأة الى رهط من البشر لا يتقن الانتماء الى التاريخ العالمي الاّ في ثوب القتل ؟ يستوي المقام حينئذ بين القاتل و المقتول ..هل سقط عليهم تاريخهم فسحق بعضهم ببعضهم الآخر ؟ احدى النسويات الاسلاميات قالت ذات مرة ” أرفض العيش مع الاه ظالم ” و ميسون الشاعرة الكويتية اتّهمت بالكفر لأنّها قالت :” ذهبت الى مكّة أبحث عن الله فلم أجده “.. كأنّ كلّ منهما، و على نحو ما ، ترسل صرخة فزع من دين تحوّل من عقيدة الاهية الى جهاز سياسي للسطو على الحكومات ..
أيّ معنى لكل ما يحدث اليوم تحت راية الاسلام السياسي في بلاد “الربيع العربي ” ؟ و كيف نفهم هستيريا الشرعية التي يتغنى بها الاسلاميون في تونس و في مصر تحديدا بعد أن فشلت الحكومات في تسيير مرحلة الانتقال الديمقراطي ؟ لماذا تتمسّك الحكومة في تونس تحديدا بالحكم تحت غطاء شرعية انتخابية منتهية الصلوحية خاصة بعد كل ما وقع في ظلّ هذه الحكومة من رشّ للمواطنين في سليانة ،الى حدّ اصابتهم بالعمى ،كما لو كانوا حيوانات صالحة للصيد ..و اغتيالات سياسية لقادة المعارضة في عقر ديارهم بسحل بعضهم و ضرب بعضهم بالرصاص ..و ذبح جنود الوطن على مرمى حجر من جيوش الوطن ..أيّة شرعية بعد التنكيل بجثث حماة الوطن و بتر أعضاءهم بشكل وحشي لا نظير له ؟ كل الأسئلة المجروحة تزدحم على بوّابة عقولنا و تدفع بنا الى “التفكير الحادّ بأقصى سرعة ” ..و تصرخ كل يوم في حناجرنا الأصوات المغتالة في قلوب من رحلوا قبل موتهم غدرا تحت راية حكومات تتقن التكبير في المساجد و تجميل الواجهة على شاشة التلفزة بعد مسح الدماء النازفة في الشوارع بشيفونة الشرعية المنتهية .
1) المفهوم :
الاسلام السياسي هو مفهوم غامض و عائم شبيه بنسيج العنكبوت فهو يضمّ في خلاياه اتجاهات و حركات و درجات في التطرّف تتراوح بين السطو على السلطة و التمسّك بها و القتل و تخزين الأسلحة من أجل الجهاد بها ضدّ شعوبها أو ضدّ من لا يؤمن بعقائدها ….لكنّنا لن نرصد الظاهرة من الناحية التاريخية الصرفة ( كما نجد ذلك في كتاب قيّم لرضوان السيّد بعنوان الاسلام المعاصر ) بل سنجمّع جملة مقوّماتها الجوهرية من أجل ادراك أهدافها العميقة و مواضع خطورتها و فشلها معا . في كتاب له تحت عنوان الخوف الاصولي يشخّص الكاتب الانغليزي بوبي س-سيّد جملة من التحديّات أمام الاسلاميين نعتبرها مقوّمات جوهرية للاسلام السياسي : أوّلا علاقة متوتّرة مع الغرب مع الاستفادة من مكاسب التقدّم الغربي . ثانيا الاسلاميون يفرضون على أنفسهم عزلة حضارية باصرارهم على مفهوم الأمّة . ثالثا الاسلاميون غير قادرين على بناء ” ثقافة الرغبة ” في مجتمع محكوم بقيم الاستهلاك ، و ذلك لأنّ مقولة الانسان- الفرد غير ممكنة داخل المنظومة الاسلامية القائمة على مقولة الانسان ” عبد الله”..يقول بوبي سيّد : ” لقد مال الاسلاميون الى التعامل مع مسألة الرغبة بطريقة عقابية بدلا من أن تكون منتجة ..و يتطلّب بناء الرغبة تثقيفا و ليس ببساطة أوجه منع أو تطبيقا أقسى للقانون “.رابعا : الاسلاميون غير قادرين على بناء تصور عام عن ” أسلوب حياة ” في حجم الحياة المعاصرة . فالأحزاب الاسلامية خارج النهي عن المنكر و الأمر بالمعروف انما تعاني حسب تعبير بوبي السيد ” نقصا في الخيال الحكومي “و هو أمر يجعلها ذات ” فهم محدود لطبيعة الدولة “.خامسا : ميل الاسلاميين الى تمجيد ” قراءة لاهوتية لتاريخهم..لذلك تكون قدرتهم على اجراء حوار مع ماضيهم مسألة مقتضبة “.
يبدو أنّ هذا التحليل للظاهرة الاسلامية لا يزال يحافظ على بريقه اليوم بعد صعود الاسلاميين الى الحكم..هؤلاء الحكّام الذين يحكمون تحت راية الاسلام أثبتوا اذن أنّهم يعيشون على علاقة متوترة بالحداثة الغربية و أنّهم يعانون من الازدواجية في مخاطبة شعوبهم بين المواطنين الأحرار و عباد الله المطالبين بالطاعة كما لو كانوا رعيّة .و أنّهم يعانون أيضا من “نقص في الخيال الحكومي” في اقتراح “أسلوب حياة” قادر على التأقلم مع متطلّبات العالم الحالي ..الخ .
يعتبر مارسيال غوشيه في كتاب بعنوان الدين في الديمقراطية، أن الثورات الحديثة قد أنزلت السلطة الى الأرض بعد أن كان الحاكم في العصور الوسطى يحكم تحت راية سلطة الاهية ،صار في العصور الحديثة يحكم تحت راية مشروعية قانونية أي بتفويض انتخابي من ارادة الشعب الجماعية من أجل مجتمع مدني قائم على قيم المواطنة . يقول غوشييه :” لقد كانت السلطة منزّلة من فوق و تفرض نفسها فوق ارادة البشر ، فأعادتها الثورات الحديثة ..الى الأرض و وضعتها على مستوى الانسان ” ..هذا النص يجعلنا أمام التساؤل التالي : اذا كانت الثورات الغربية الحديثة قد أنزلت السلطة الى أيادي البشر ، فما الذي يحدث لدينا بعد الثورات العربية المعاصرة : هل دفعنا بعجلة التاريخ الى الماضي ثانية ؟ أم نحن ثقافة ممنوعة من المستقبل ؟ لم نخرج بعدُ من أمثولة الكهف . لكن ماذا تخبّئ كهوفنا في بطونها المدجّجة بالعبوات الناسفة ؟ أصفاد البؤس في الأسفل ..و في الأعلى لا شيء غير أوهامهم و الاه متضرّر من سطو الاسلاميين عليه ..و فيما أبعد من الصحراء ثمّة مؤامرات أمريكا و العنكبوت الخليجي و شبكات الارهاب العالمي و اللوبي الصهيوني ..لا شيء ينقذ العالم العربي غير قصّة أخرى : أبطالها بهلوانيّون و مهرّجو سيرك ..
2) مقوّمات الإسلام السياسي:
لو أردنا ملامسة الظاهرة عن قرب لجمّعنا مقوّمات الاسلام السياسي فيما يلي :
1)السؤال الأساسي الذي يواجهه الاسلام السياسي اليوم هو التالي : ما هو مدى استعداد هذه الثقافة الاسلامية الى العلمنة كشرط أساسي للانتماء الى العالم الحالي ؟ ما هو مدى استعدادنا للانتماء الايجابي للتاريخ العالمي المعاصر ؟ ذلك أنّ الاسلام السياسي ينجح في استقطاب الجموع على الانخراط في ركبه كلّما نجح في شيطنة الغرب للتملّص من مكتسبات الحداثة .انّهم يضعون بين قوسين كل التراث الانساني الحديث في حين أنّ هذا التراث هو تراث عالمي يخترق الجميع في شكل نوع من القدر التاريخي الذي لا يستشير أحدا في التسلّل الى بيته تحت كل المسميات : التكنولوجية و الرقمية و الترفيهية . نحن نقصد الحداثة كشكل حياة عالمي و ليس كمنتوج غربي . متى سندرك أنّ الحداثة ليست تراثا خاصا بالغرب وحده ؟ أو بعبارة للدكتور فتحي المسكيني : ” الى متى سنظلّ مترجمين سيّئين لامكانات أنفسنا القديمة في معجم الانسانية الحالية ؟”.
2) الاسلام السياسي لا يؤمن بالثورات لكنه لا يخجل من الاستحواذ عليها و تحويلها الى انتصارات انتخابية مفبركة و حكومات لفرض الوصاية على الشعوب . ليس ثمّة عقيدة ثورة لدى الاسلاميين ، ثمّة دوما طقوس للجهاد في سبيل الله بالتكفير و الرش و الغزو و الاغتيال و الذبح و التفجير ..الخ ..
3)الاسلام السياسي يشكو من زكيزوفرانيا فظيعة في خطابه : بين الخلافة و الدولة ،بين المواطن و الرعية ،بين أخلاق الطاعة و قيم الحرية ، بين قيم المساواة المدنية و مبادئ العدل الالاهي و القضاء و القدر .فهو يسوّق خطابا عن المواطنة و الديمقراطية و الحرية و حين يعود الى شيوخه يتمسّك بالشريعة الاسلامية تمسّكا باتولوجيا .و تخالك و أنت بحضرتهم كأنّ الاسلام دين جديد هم من اخترعه و هم الأوصياء الوحيدون عليه ..هستيريا يختلط فيها الادمان على الشرع بالادمان على الشرعية .تجارة للدين على قدم و ساق و سوق أينعت بأرواح هشّة و أجساد نحيلة تقاطعت على أوجاعها كل الحكومات البائدة و المؤقتة ..
4) الاسلام السياسي لا يؤمن بالاسلام بوصفه عقيدة بل بالاسلام بوصفه سياسة و طريقا الى السلطة . انّ الاسلام واقعة تاريخية و الاسلاميون واقعة تاريخية أخرى : اسلام الملّة هو اسلام تاريخي و في أقصى الحالات هو مدوّنة أخلاقية للمجتمع في حين أنّ الاسلاميين حركة سياسية حديثة تريد أن تكون الوصيّ على الذاكرة العميقة أي على الهويّة ثمّ تستعمل حصادها ذاك كخطاب للوصول الى الحكم أي لانتاج نوع من الشرعية أي القانونية القابلة للاستعمال الرعوي .هذا ان لم نقل أنّ الاسلاميين ليسوا هم المسلمون ..لأنّه ثمّة فرق بين الايمان بالاسلام كعقيدة و تجارة الاسلام كدولة .
و قد يكون بوسعنا أن نقول أنّ الاسلام قد انتهى كدين و بدأ كسياسة ترغب في السطو على العالم ..وهذا قد وقع منذ 11سبتمبر حيث أعلن الجميع أنّ ” الاسلام قد خُطف من طرف الارهابيين “.أمّا اليوم في قلب ناعورة “الربيع العربي ” فان الاسلام السياسي الذي تسنده أجندات عالمية أمريكية و غربية من الخارج فهو يترعرع من الداخل بأصوات المنسيين و المهملين في الأنظمة الاستبدادية السابقة الذين انخرطوا في لعبة صناديق الاقتراع أملا في تحسين لوضعياتهم ..لكن لا شيء انضاف الى حياتهم غير جوع اضافي و بؤس أعمق .
5) يستعمل الاسلام السياسي وسائل عدّة للاشهار الديني و التعبئة الانتخابية : قنوات فضائية تموّل بآلاف الملايين من الدولارات و دعاة ينتشرون عبر العالم ينثرون الفتاوى و يسوّقون علوم الآخرة لذوي العقول الهشّة و القلوب المذعورة ..أمّا دور العبادة فقد تحوّلت من مساجد لاعلاء كلمة الله و نشر أخلاق التسامح و الرحمة و المحبة الى مؤسّسات سياسية للتكفير و التخوين و التأثيم و الدعوة الى الفتنة و الاقتتال .أمّا المواسم الدينية و الأعياد فقد تحوّلت هي الأخرى في يد مكنة الاسلام السياسي الى مناسبات حكومية للتعبئة الحزبية ..كأنّما الاسلام قد صار الى مؤسّسة اشهارية لاستقطاب المستهلكين لنظام جاهز للسطو على القلوب و العقول .
3) هستيريا الشرعية :
ثمّة لعبة لغوية ماكرة في نسيج مفهوم الشرعية بين شرعية الشرع أي الشرع الالاهي و مشروعية القوانين المدنية .هذه اللعبة تتقنها لغة الضاد و تتلكأ فيها لغة اللاتين بين légalité و légitimité .
انّ تمسّك حكومات الربيع العربي بالشرعية بعد كل الأحداث الدموية التي وقعت في حيّزها ، يجعلنا نتحدّث عن نوع من هستيريا الشرعية في معنى ضرب من الحالة النفسية العامة التي خرجت فيها حكومات و أحزاب برمتها عن طور العقل و عن طور المشروعية .. لا شيء يبصرون ممّ يحدث من افلاس اقتصادي و بؤس اجتماعي و فوضى مدنية غير كونهم يملكون الشرعية الانتخابية ..شرعية الصناديق التي دفعت بخيرة أبنائها الى التوابيت …شرعيون الى حدّ اراقة الدماء ..كيف نفهم هذه الهستيريا الشرعية ؟
يبدو أنّ الاسلام السياسي الحالي انّما يقوم في جوهره على سوء فهم للمعنى الحديث للشرعية .هذا اذا استثنينا الحديث عن انتهازية سياسية في معنى استعمال الانتخابات للقضاء على فكرة الديمقراطية : صندوق الاقتراع يصلح مرّة واحدة أي من أجل صعودهم الى الحكم ..ثم يقع غلق باب الديمقراطية .و يتمثّل سوء الفهم هذا فيما يلي :
1)اذا كانت الشرعية هي مجرّد نجاح انتخابي لحزب دون آخر وفقا لقاعدة التداول على السلطة ، فانّ الاسلاميين يدافعون عن الشرعية و كأنّها منحة دينية من الله لأنصار الشريعة أو لممثّلي الأمّة .و هنا يتمّ الخلط بين الشرع بالمعنى الديني و الشرعية بالمعنى القانوني الحديث .
2) ينبغي التمييز اذن بين الشرعية و المشروعية : فالشرعية هي قانونية دوما لأنّها مجرّد تطبيق صوري للقواعد الانتخابية داخل مجتمع مدني حديث .شرعي هنا يرادف قانوني . أمّا المشروعية فهي أخلاقية بالأساس أو معيارية . انّها تعبير عن جملة القيم و المعايير التي يستمدّ منها مجتمع ما شروط فهمه لنفسه و أشكال التعبير عن هويته .
3) الاسلام السياسي يظهر في شكل مريب على المستوى السياسي و ذلك بعد أن قبل المشاركة في الانتخابات المدنية كطريق للوصول الى السلطة : فهو من جهة يدافع عن الشرعية في معناها القانوني الحديث و الحال أنّه من المفترض في انتمائه الى منظومة اسلامية أن يدافع عن المشروعية في معنى دقيق جدّا ،لأنّ الاسلام السياسي هو تعبير هووي عن السلطة و ليس تعبيرا مدنيا .و هنا بالضبط يكمن عنصر الريبة في دخول الاسلاميين الى الانتخابات و صعودهم الى السلطة عبر أغلبية مفبركة سلفا . فهم يلبسون قناع الشرعية و الحال أنّ كل خطاب عنها يضمر خطابا هوويّا أي خطاب يدافع عن مشروعية التصور الاسلامي للعالم .
4) ينطوي الاسلام السياسي على نزاع دفين بين النموذج الرعوي (أي مفهوم الزعامة الدينية في شخص الشيخ أو المرشد أو الداعية أو الامام الشيعي ..) و بين النموذج المدني أي الشكل القانوني للشرعية في نطاق المواطنة . فالاسلام السياسي يخاطب رعيّة و يستعمل خطاب المواطنة و يخلط عندئذ بين الطاعة و الحرية .
5) يقوم مفهوم الشرعية على مفهوم الأغلبية : لكن ما هوية هذه الأغلبية التي جعلت صعود الاسلاميين االى الحكم ممكنة ؟ هل هم رعاع أم هم شعوب أم جموع ..أم أغلبية مؤقّتة تمّ جمعها من أحياء الفقر بمقابل يتراوح بين النقد و التزويج و الختان و علّوش العيد …؟ ممّ يجعل مفهوم الأغلبية التي يزايد بها الاسلام السياسي على من يسمّيهم ” الصفر فاصل ” موضع شكّ و ريبة . في كتاب ” سيكولوجيا الجماهير في الفاشيىة (1933) يتسائل وليام رايخ طويلا عن سرّ صعود هتلر الى الحكم قائلا : ” كيف استطاع هتلر فرض نفسه ؟ كيف يمكن لشعب من سبعين مليون نسمة من الأفراد المثقّفين و العاملين أن يدع نفسه يُفتن بشخص مضطرب العقل بشكل واضح “. و يجيب :” انّها وظيفة الاغواء الكاريزماتيكية للزعيم الذي يتكلّم و يخطب ..و عبادة الانضباط و الاحتفالات ..و الخضوع المازوشي للرؤساء المدفوع حتى التضحية ..”. و في كتاب بعنوان ” علم نفس الجماهير ” (1895) لغوستاف لوبون الذي انشغل بظاهرة العدد يعرّف المؤلف فكرة الأغلبية كما يلي : ” ..بواسطة هذه الكيمياء الاجتماعية الغريبة تتحول الكثرة الى كائن جماعي ..مزوّد بنفسية و ذاكرة ، بوعي و بارادة و بمجموعة سمات ..سرعة الغضب ، سرعة التصديق و النزوع حتما الى العنف ..”..رغم أنّ هذا التحليل لم يعد قادرا على فهم ما يحصل في مفهوم الأغلبيات و الأقليات الانتخابية فانّ شيئا ما في سيكولوجيا الجماهير هذه التي يمكن استثمارها في ألاعيب و مؤامرات سياسية ،لازال عالقا فيما حصل من انتصارات انتخابية للاسلام السياسي في ” الربيع العربي “.
6) انّ الاسلام السياسي يشتغل وفق تأجيج الانفعالات الدينية و العرقية و التاريخية الأكثر عمقا في النسيج البعيد للأغلبية التي كوّنها تحت راية صناديق الاقتراع المدنية من أجل استخدامها “حطبا رعويا “و عددا انتخابيا يدوس به على أحلام الشعوب و ثوراتهم . ثمّة نوع من ” طاعون الانفعالات” الذي يُحوّل الحشود خاصة في المساجد و قد صارت الى منابر سياسية ،الى كتلة انفعالية متجانسة صاخبة تعتقد أنّها أخوية بأخوّة الاهية صافية ضدّ كل من يعادي معتقداتها و انفعالاتها. و هو ما يحدث اليوم من تعبئة للمساندين للشرعية ( في تونس و في مصر ) عبر تعبئة انفعالية ( تحت راية الايمان و الكفر ).. و حتى بمقابل مالي أحيانا و ذلك في نوع من الانتاج المثير لأغلبية تصلح للاستهلاك السياسي المؤقت .
6) انّ السؤال المحرج للاسلاميين اليوم هو التالي : هل تخلّى الاسلام السياسي المتمسك اليوم حقّا عن خيار الجهاد أي على ثقافة الدعوة العنيفة أم أنّه غيّر الوسائل و احتفظ بالغايات ؟ ان
فشل الاسلاميين في الحكم رغم صعودهم اليه عبر انتخابات شرعية هو علامة كبيرة على التناقض العميق الموجود في خطابهم بين الشرعية كمكسب انتخابي و طريقة الحكم كحكم دعوي و رعوي لا يحترم قيم الدولة المدنية : المواطنة ، المعارضة ، المشاركة ، الاستقلالية..حرية المعتقد ، منظومة حقوق الانسان الكونية ..انّهم يصلون الى الحكم بشكل شرعي لكنّهم يحكمون بشكل رعوي . فكل من يعارضهم أو يخالفهم يقع تهديده بالقمع و يكفّر و يخوّن و قد ينتهي به الأمر الى القتل في عقر داره . انّهم يصلون الى الدولة بطرق مدنية و يمارسون الحكم بطرق دينية .و في الحقيقة علينا أن نقول أنّ مفهوم الجهاد في سبيل الله و ثقافة القتل من أجل ارضاء الله ليست حكرا على الاسلاميين بل هي موجودة في عمق ديانات التوحيد .و هنا نستحضر نصّا فظيعا للوثر (1483- 1546) المصلح الديني المسيحي المعروف في كل الغرب المسيحي .يقول في كتابه ” ضدّ عصابات الفلاّحين النهّابة و القتّالة ” ما يلي : ” أيّها السادة الأعزّاء ، اطعنوا بالخنجر ، هاجموا و اذبحوا بشكل أفضل .و اذا لقيتم الموت ، فهذا أفضل لكم ، فأبدا لن تستطيعوا أن تلقوا موتا أكثر سعادة ، لأنّكم تموتون ، و أنتم تطيعون أمر الله و كلامه “.
خاتمة :
ثمّة أطروحة فلسفية معاصرة تقول ما يلي : هناك فشل عالمي في بناء ايجابي لكينونة بشرية مشتركة .وهذا الفشل هو الذي أدّى الى احياء النعرات الدينية و صدام الأصوليات و دفع بهذا العصر الى “عصر التطرّف “. هذه الأطروحة هي لجون لوك نانسي أحد المفكّرين الفرنسيين المعاصرين الذي يذهب الى أنّ المشكلة التي تواجه العالم اليوم هي ” شكل الحياة ” الذي يمكن للانسانية أن تشترك فيه على المستوى العالمي في ظلّ رأسمالية متوحّشة و شبكات ارهاب عالمية لا يمثل الاسلام السياسي غير تعبير من تعبيراتها الدنيا . يذهب نانسي الى ” أنّه لا يمكننا اليوم أن نعلمن فكرة الله ما دامت العلمنة تعني النظام الخارجي لما هو الاهي ..فامّا أنّ السياسة لا يمكنها أبدا أن تبتلع الدين ، و امّا أنّه ليس ثمّة دينا مستقلاّ أصلا ، و أنّ الدين هو دوما وسيلة لسياسة ما “. لكنّ نانسي يستدرك كي يميّز الالاه التوحيدي عن الديانات الوثنية يقول :” .داخل الالاهي الوثني ليس ثمّة مجالا للتفرقة بين الدين و السياسة فلا شيء منهما موجود فعلا ..أمّا داخل الالاهي التوحيدي ثمّة دوما توتّر في الفصل بينهما لأنّ أحدهما يمحو الآخر “..هل يمكن للاسلام السياسي أن يتغلّب على هذا التوتّر بين الديني و المدني ؟ من أجل ذلك عليه أن يتدرّب على الانخراط في الحياة المدنية كعضو شريك و ليس كحزب وصيّ على مصير شعب برمّته .
لا خيار اذن أمام ركّاب الاسلام السياسي الاّ أن يصبحوا شركاء في العملية السياسية بوصفهم جزء من الدولة الحديثة و ليس بوصفهم أوصياء على الأمّة التي لا وجود لها سياسيا بل هي بالأساس منظومة أخلاقية يستمدّ منها المجتمع هويّته لكنّه يرفض أن يصبح رهينا لها من الناحية السياسية .الاسلام السياسي مطالب اذن بالتدرّب على أخلاق العيش معا في وطن ديمقراطي . و ذلك لا يعني القدرة على تجميع الحشود في شكل عدد انتخابي أحمق أو تحت راية أغلبية عنيفة ، بل القدرة على أن يشترك الجميع في وطن يضمن الكرامة و العدالة و السعادة للجميع . أمّا عن علاقتنا بالعالم ، فالاسلاميون لازالوا بعيدين اليوم عن بناء علاقة صحّية مع الحداثة العالمية . في حين لا يمكن لأيّة ملّة أن تتخلّص من دائرة التاريخ العالمي الاّ و قد لفظتها فكرة الانسانية كأنّما الأمر يتعلّق برهط آخر من الكائنات البهلوانية .

قائمة المراجع المستعملة :
1)فرانسوا شاتليه ، أوليفيه دوهاميل ، ايفلين بيزيه ، معجم المؤلّفات السياسية، ترجمة محمد عرب صاصيلا ،بيروت ، المؤسّسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع ،1997.
2)بوبي س سيّد، الخوف الأصولي ، المركزية الأوروبية و بروز الاسلام ، ترجمة عبد الرحمان
أياس ، بيروت ،الفارابي ، 2007.
3) مارسسيل غوشيه ،الدين في الديمقراطية ، ترجمة د.شفيق محسن ، بيروت ،مركز الوحدة العربية ، 2007.
4) رضوان السيّد ، الاسلام المعاصر ، نظرات في الحاضر و المستقبل ،بيروت 2011.
5) د.فتحي المسكيني ، الهويّة و الحريّة ، نحو أنوار جديدة ، بيروت، 2011.

 

 الحوار المتمدن

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×