الرئيسية / صوت الثقافة / مقدّمات لإعدام وزارة الثقافة
مقدّمات لإعدام وزارة الثقافة

مقدّمات لإعدام وزارة الثقافة

أمامةبقلم : العنقاء

إذا كان ينبغي أن نكتب اليوم في هذا الهرج والمرج وبين هذه الأصوات التي انفلتت بعد خمودها أكثر من ثلاث وعشرين سنة، فلا بدّ أن ندرك تمام الإدراك أننا مازلنا نرزح تحت مقصّ الرقيب وسطوة المخبر الذي مازال متواطئا ضد أقلامنا.. مازلنا نحاسب على أصواتنا الحرة وعلى أفكارنا وآرائنا…

إذا لن أوقّع بإسمي هذه المرة… سأكتب باسم مستعار.. ولكني سأترك بصماتي لتعثر عليّ.. فانتبه أيها القارئ، أنت تعرفني جيدا، ولكني سأخاتلك وأحجب إسمي ليس خوفا من جلسات التأديب أو اقتطاع من الأجر أو طرد من العمل.. سأخفي إسمي وأستعير آخر لتدرك جيدا أننا مازلنا في حصار مفروض على أحلامنا.

سأسميّني «العنقاء» ولن أصدّق ما يزعمه البيت القائل:

«الخلّ والغول والعنقاء ثالثة *** أسماء أشياء لم تخلق ولم تكن»

… فأنا أعتقد أنّ الإنسان، منذ كان، لم يكن يسمي اللا موجودات.. بل كان يطلق الأسماء على ما يراه ويلمسه ويحاربه ويصادقه.. الإنسان لا يتخيّل الأشياء وإنما هي موجودة ومكتفية بوجودها… قد يتخيل شكل إقامتها في العالم… يهوّلها يصغّرها… الإنسان يلعب بالأشياء بمهارة.

لقد كان التّخييل كامنا فقط في لعبة إقامة علاقات بين هذه الأشياء… كأن نقول: «الريح كلب مسعور»… فالريح والكلب أشياء موجودة والعلاقة بينهما تخييلية.

وبناء على ما تقدم نقول إن العنقاء كائن موجود، لا شكّ في وجوده والغول حيّ يرزق (الغوريلاّ)…وسأوقّع مقالي بها.

********************

  يبدو أن وزارة الثقافة بعد 14 جانفي ظلّت على حالها من الوهن والضعف. أربعة وزراء ولم يتّخذ أيّ منهم إجراء «ثوريا» واحدا في عمق الفعل الثقافي. في ظل غياب كلّيّ لبرامج وإصلاحات تنهض بهذا القطاع الذي لا يمكن نفي أهميته في ظلّ حرب كاملة على الإرهاب.

فالثقافي هو في الحقيقة ما تستهدفه يد العنف، وتحاول تقويضه والقذف به في سلّة المهملات/محرقة التاريخ.

نحن اليوم نحارب الإرهاب… ولكن هل يكفي أن نحاربه بالسياسي والعسكري والأمنيّ؟

أليس على الثقافي (إدارات وهياكل ومثقفين ومبدعين…) واجب الدفاع عن وجوده وعن وجود دولته؟

الثقافي لا يسير على كرسي متحرّك ..ولا يتبوّل على نفسه..

الثقافي ليس أبكم وأعمى فينتظر من السياسي أن يحمل بيده ويدفع كرسيه نحو أفق رحب.

الثقافي سلطة في حدّ ذاته تسمح له بالدفاع عن نفسه وتخوّل له أن يدفع بالسياسي إلى برّ الأمان.

فالثقافة ليست زوجة متعة للسياسي، «فأما أن تخلق كمانها، أو أن تمنح الفراغ فرصة أن يبتلعها».

1/ ثقافة الفراغ: رياض للأطفالورهان «الماجورات»:  

بدأت «الثقافة تأخذ بالانفصال عن الثقافي وتتحوّل إلى نوع من السحر الأسود»، وأصبحت الهياكل التابعة لوزارة الثقافة مجرّد انعكاس باهت لبهرج «ثقافي» قوامه الشماريخ وأوراق الزينة وورود البلاستيك.

وأصبحنا لا نتحدّث عنها دون استحضار مساحيق التجميل وصالونات الشفط و«الريجيم»، لا نتحدث عن هياكل ثقافية تقدّم مواد دسمة بل نجد دور الثقافة قد فتحت أبوابها، تحت يافطة خفيّة عن العين المجردة، دورا للحضانة ورياضا للأطفال… في إحصاء عينيّ بسيط نتبيّن أن رواد هذه الدور- ولا أقول كلها وإنما أغلبها – تتراوح أعمارهم بين الخمس سنوات والخمسة عشر ربيعا.

مما يدعونا إلى التساؤل: هل يبدو هذا طبيعيا؟

يبدو أنّ إقبال هذه الفئة بالذات على فضاءات دور الثقافة كان نتيجة حتمية لبرامج يقدمها بعض المشرفين على هذه الدور ولرؤى تكرسها الإدارة نفسها التي تفضل دعم الأنشطة الخاصة بالطفل والتي لا تثير وجعا في الرأس ولا قلقا… فنجدها حافلة بالـ«ماجورات» والساحر والبهلوان.

ويبدو عزوف الكهل والشاب عن هذه الفضاءات مبرَّرا، إذ لا يعثر فيها عمّا يثير انتباهه أو يدفعه إلى الانخراط في أنشطتها.

فهل نراهن فقط على الطفل؟

جميل هذا الرهان، ولكنه مبتور وضعيف خاصة في يومنا هذا حين نرى شبابنا يقبل على التطرف وينساق خلف الأوهام التي يصنعها تجّار الدِّين والدّم.

يبدو أنه لا بدّ أن تراهن وزارة الثقافة بكل هياكلها على كل فئات المجتمع وتحاول استقطابهم إلى فضاءاتها ليس فقط بعروض السحر والـ «شقلبة» وإنما ببرامج حقيقية تكون قريبة من تطلّعات المجتمع بأسره وأن تقدم خدمات ثقافية متنوّعة وجادة، للخروج من مأزق الفراغ الثقافي.

في الحقيقة تبدو البرامج التي تسطرها الوزارة للوهلة الأولى متنوعة وثرية إذا ما قرّرنا النظر إلى كمّ السواد المنثور على الصفحات البيضاء… ولكننا حين نمعن النظر نكتشف هذا التصحر وندرك أنّ كل ذلك السواد ليس إلا مضيعة للحبر وللورق.

2/المبدع صنف «د»:

يقول إدوارد سعيد: «يلوح لي خطر اختفاء صورة المثقف أو احتجاب مكانته.. أي خطر النظر إلى المثقف باعتباره أحد المهنيين وحسب، أو مجرّد رقم نحسبه في حساب تيار من التيارات الاجتماعية…».

إن المثقف/ المبدع في تونس قد اختزلت صورته «وأصبحت صورة مهنيّ مجهول الهوية».. مهنيّ نكلّفه بـ «وفْقة» ثقافية… ونمتهنه بقدر ما منحنا الأمر عدد 438. طبعا نحن لا نغفل القيمة الأدبية والثقافية للمهرّج الذي يُحمل فوق الأعناق ويُجزل له العطاء! طبعا نحن ندرك أنّ الأدباء والشعراء والمفكرين هم خارج دائرة الثقافي! هم الدخلاء والوزارة تشفق عليهم وتمنحهم بعض المنح الضئيلة في إطار المنّ والهبة!

الكاتب بعد تطاول هذا «الأمر» عليه والزجّ به في دور لا يليق به ولا يليق بوزارة الثقافة، جعله في عزلة تامة، منكسرا خائبا، فإذا هو يقاطع هذه الفضاءات ويصعد برجه العاجي، أو نراه متصاغرا ذليلا يطلب ويناشد حضوره في المشهد.

إنّ المبدع يأخذ دائما على عاتقه، الشكّ والسؤال «والسخرية اليقظة التي تستريب بما ترى». لذلك نراه – في مجتمعات مازالت ترزح تحت وطأة تاريخ دمويّ، تاريخ يرفض المفكّر ويقمعه ويسلّط عليه كلّ أدوات القمع ويمارس ضدّه كلّ العنف المتاح – يتحوّل إلى «إنسان ذي بعد واحد». ويكون حضوره بذلك في المحافل والتظاهرات مجرّد حضور شكلي.. حضور للزّينة لا غير.

الكتابة أمر قاسٍ في بلادي.

التفكير مسألة شائكة وجرأة لا تتحمّل مسؤوليتها بلادي.

السؤال والشكّ أمران في غاية الخطورة يمسّان من أمن بلادي.

أن تكتب هنا فمعناه أن تظلّ يتيما.. أن يتبوّل عليك الناشرون، أن تبصق عليك الإدارة من الطابق الثاني.. وأن تتخوزق في وزارة الثقافة.

أن تحلّ ضيفا بيننا ونطلب «معرّفك الجبائيّ»…

أيها الشاعر، أيّها الناقد، أيها الروائي.. أيها الكتّاب، إن الوزارة قد قررت أخيرا أن تعترف بكل واحد منكم مؤسسة كاملة تمتلك فيما تمتلك معرفا جبائيا!

طوبى لكم !

ولكن في المقابل علينا نحن الذين سنفكر يوما باستضافة أحدكم أن نبحث في أيّكم يقدم السلعة الأقل ثمنا !

أعتقد أنني سأنصحني وأنصحكم بأن نتّجه فورا إلى «كافون» العظيم كي يعلّمنا درسا في الفنّ ويأخذ بأيدينا في اتجاه مسرح قرطاج. !

فلقد أخبرني أحدهم يوما: أنّ زمن المثقف لم يبدأ في أوطاننا كي ينتهي.

3/ كرسيّ الاعتراف:

انتبه إلى خطواتك.. انتبه إلى صوتك.. لا تتحدّثْ فيما يعنيك وفيما لا يعنيك.. أنت مجرّد «ماريونات» نحرّكك كما نشاء.. أنت أداتنا ونحن «نرسم الميدان مسبقا ونحدد الطريق الواجب اتّباعها».. لا تفكّر كثيرا، لا تطرح الأسئلة ولا تنتقد أي شيء.. لا تنتقد حتّى في حلمك ما يحدث في أروقة الوزارة أو ما جدّ من إجراءات لا تراعي الثقافي.

ما حدث لأحد الزملاء ذكّرني بما كان يحدث قبل 14 جانفي في الإدارة التونسية. التي لم تكن تعترف بضرورة النقاش وترفض التعبير عن الرأي بكل حرية.. لا جريرة لزميلنا هذا سوى أنه تكلّم في موضوع يهمّنا جميعا. تكلم عن اللجان الثقافية وعن غياب بديل واضح المعالم لها.

فما كان من الوزارة إلا أن استجوبته.

هنا نتأكد جميعا أن كرسيّ الاعتراف ينتظر كل من تسوّل له نفسه الحديث عن أي أمر يخصّ وزارة الثقافة.

الاستجواب والتأديب عادة تونسية سيئة لم تبارحنا قطّ، وهي بطبيعة الحال عادة لا يمكنها أن تؤسس للثقافة الجادة ولأسلوب في العمل قابل للتطور والتّحفيز على العمل الثقافي الحقّ. بل تخنق كل نفس بنّاء.

4/ نقابات بعد 14 جانفي: أخونة العمل النقابي

كان أعوان القطاع الثقافي كغيره من القطاعات، في حاجة ملحّة إلى إنشاء نقابات تدافع عن منظوريها وتلخّص مطالب الموظفين والعملة. ولذلك تأسست نقابات أساسية تحت لواء النقابة العامة للثقافة والإعلام وقد اعتبرناها مكسبا حقيقيا في هذا القطاع وراهنّا عليها. وسرنا في المسيرات التي نظمتها وأضربنا في مواعيد إضرابها.. وقاطعنا ودافعنا.. وقد افتكّت هذه النقابات من المكاسب الكثير في بداياتها.

ولكن المخيّب للأمل أنّ هذه الحركية النقابية لم تستمر خاصة بعد إفراد نقابة عامة للثقافة، بل تراجعت كثيرا فكلّما كادت تحقق مطلبا ما إلا ورأيناها تتراجع خطوتين إلى الخلف.

والأخطر ليس هذا بطبيعة الحال، وإنما أن تتحوّل النقابة إلى هيكل يدافع عن الإدارة ضدّ منظوريها، أن تكتب النقابة بيانات تسبّ فيها بعض منظوريها، أن تنتصر النقابة لعقاب يسلّط على أحد منظوريها… فهذه مسألة تطرح عديد نقاط الاستفهام.

كتّاب عامّون لنقابات أساسية يشتمون كتّابا عامّين منضوين جميعا تحت راية اتحاد الشغل…. ولاءات سياسية لنقابيين يرفضون التعاطي مع غيرهم.. ملاسنات وشجارات وملابسُ داخلية معلّقة على صفحات الفايسبوك..

المشكل أنّ من يتعرّضون إلى هذه الهرسلة والشتم هم من كانوا على يسار «النقابة»، إذ يبدو تحاملها على بعض منظوريها تحاملا سياسيا ومحاولة للإقصاء ولأخونة نقابات الثقافة، التي يبدو أنها تخلّت عن دورها النقابي واتّخذت لها دور ماسح أحذية في أروقة وزارة الثقافة.

وضع نقابي مزرٍ وإلهاء عن المطالب الحقيقية لأعوان وزارة الثقافة وتشتيت للانتباه وفرقعات لا معنى لها، هذا ما نتبيّنه بعد سنوات قليلة من تأسيس هذه النقابات.

ولعلّ حداثة نشأتها لا يبرّر مثل هذه التجاوزات الخطيرة. فنحن نخشى على نقابات الثقافة أن تتحوّل إلى «دواعش نقابية» تميل إلى تصفية خصومها السياسيين واغتيال الفعل النقابي وتفجير المشروع الثقافي.

في حقيقة الأمر قد نتفطّن إلى تعاسة الوضع الثقافي في تونس إذ يبدو أن وزارة الثقافة وزارة من صنف عشرة.. فلم نسمع بإجراءات ثقافية تخصّ هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ بلادنا. لم نسمع بالحرب الثقافية المفروض إعلانها ضدّ الإرهاب.. لم نسمع بحركة واحدة في اتجاه تحديث هذه الوزارة التي ترهّلت.

ويبدو أننا في هذا الوضع لا نملك خيارات كثيرة… كما أن «الحالة الوحيدة التي تجعل المرء محترما فكريّا هي بألاّ يكفّ عن التعبير عن رفضه المطلق..» لما هو قائم ولما يُراد لنا أن نسلّم به.

أخيرا، عزيزي القارئ قررت أن أوقّع إسمي أسفل الصفحة..

* الشاعرة: أمامة الزّاير (عضو حركة نصّ)

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×