في ذكرى التأسيس : حزب العمال يستعدّ لما هو قادم

علي البعزاوي

يحيي الشيوعيون والشيوعيات والتقدّميون والتقدميات في تونس يوم 3 جانفي 2024 الذكرى 38 لتأسيس حزب العمال في ظلّ تراجع ملحوظ للزّخم الثوري النضالي الذي عرفته العشرية الأخيرة كرد فعل ضد سياسات التبعيّة والتفقير والتّهميش والاستغلال والفساد، وفي ظلّ تفوّق مؤقّت للثورة المضادّة بقيادة الشعبوية التي نجحت في تصفية الحساب مع المنظومات الرّجعية التي استولت على الحكم بعد 2011 بدعمٍ من القوى الاستعمارية والإقليمية الباحثة عن تأمين وتثبيت مصالحها الاستراتيجية في تونس، وتقدمت (الثورة المضادّة) أشواطا هامة على طريق التأسيس للبناء القاعدي الشّعبوي الاستبدادي.
ثمانية وثلاثون سنة من النّضال والتّضحيات والانتصارات بدءً بالدّور المحوري للحزب في النضال ضد الدكتاتورية الذي تُوِّج بثورة 17 ديسمبر – 14 جانفي وانتهاءً بالفضح المبكّر للمشروع الشّعبوي الرجعي ومخاطره على الشعب والبلاد، مرورا بالنّضال المستميت مع عمّال وشباب ونساء تونس ومع القوى الديمقراطية والتقدمية من أجل استكمال مهام الثورة.
لقد لعب حزب العمال دورا هامّا في استقراء الواقع الموضوعي وفضح الخيارات اللاشعبية واللاوطنية لمختلف المنظومات التي مرّت على حكم تونس وضبط الحلول البديلة المباشرة والمرحليّة مع العمل الدائم على توسيع جبهة القوى المناضلة من أجل التّغيير والتقدّم. ونجح أحيانا وفشل أحيانا أخرى. والمسيرة مستمرّة بلا هوادة من أجل تصحيح الهِنات ومكامن الضّعف، والبناء على ما هو إيجابي في هذه التجربة الطويلة الثريّة بالدروس والعِبر.

مكامن قوّة لا بدّ من دعمها

إن مصدر قوّة وصلابة وتماسك حزب العمال وتفوّقه الفكري والسّياسي في السّاحة الوطنية تعود إلى وحدة مناضليه حول خطّ الحزب وبديله الوطني الدّيمقراطي الشّعبي ذي الأفق الاشتراكي الذي يناضل من أجل تحقيقه باعتباره الحلّ الذي يخدم مصالح الطبقة العاملة وعموم الشّعب ويستثني فقط الأقلية البورجوازية العميلة. هذه الوحدة تستند إلى أسس فكرية وسياسيّة وتنظيمية ومحكومة بالصّراع الديمقراطي، أي بقانون الأغلبية والأقلية. فهي في الجوهر وحدة طوعيّة ديمقراطية تفرض بطبيعة الحال وحدة الممارسة الميدانية، أي أن كل الحزب بعد النقاش الحرّ والعميق وصراع الأفكار والمشاريع ينخرط ككلٍّ موحّدٍ في تنفيذ وإنجاز ما هو متّفق بشأنه.
إنّ البديل الوطني الديمقراطي الشعبي ذي الأفق الاشتراكي لم يشخْ ولم يتجاوزه الواقع مثلما يرى البعض، بل هو مشروع فتيٌّ وفي حالة صعود وتقدّم وهو الحلّ الجذري الوحيد الممكن لقضايا الشعب والبلاد لأنه بإرسائه يمكن وضع حدٍّ للهيمنة الاستعمارية الجديدة على بلادنا وتحقيق الاستقلال الكامل والفعليّ لتونس وتمكين الطّبقات والفئات الشّعبية الكادحة والمضطهدة من السّيادة على الثروات الوطنية وبناء اقتصادي وطني منتج للثّروة وذو قدرة تشغيليّة عالية تسمح بالتقدّم والرّقي والاستقرار الاجتماعي باستقلالية تامّةٍ عن القوى الاستعمارية والرّجعية التي يصبح التعامل معها محكوما بالمصالح المشتركة دون إخضاعٍ أو إملاءاتٍ مثلما هو حاصل اليوم. لقد أكّدت التجربة الملموسة أنّ الارتهان للقوى الاستعمارية والخضوع لإملاءات مؤسّساتها وشركاتها العملاقة يتنافى مع أيِّ إمكانية للنهوض والتقدم والازدهار وأن الحلّ الحقيقي هو في التخلّص من عبْء التبعيّة المدمّرة وليس في البحث عن تسويات وصفقات معها.
لقد تطلب انتصار الرّأسمالية على النظام الإقطاعي وتثبيتها كمنظومة جديدة مئات السّنين من الصّراع الدّموي الميداني والفكري والسّياسي… وبالتالي فإنّ سقوط الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وبلدان أوروبا الشّرقية وغيرها لا يعني سقوط هذه المنظومة نهائيا بل هو فقط فشل مؤقّت لبعض التجارب له أسبابه الذاتية والموضوعية؛ فالبديل الاشتراكي مازال فتيًّا وحيويًّا وقادرا على الحياة من أجل إنقاذ البشريّة من الدّمار والاستغلال والحيْف الاجتماعي والقهر الطبقي الذي تسلّطه الرأسمالية في طورها الامبريالي على شعوب العالم وأُمَمه.

شروط لا بد من توفيرها

إن حزب العمال مؤتمن سياسيّا وفكريا وعمليّا على التّغيير الجذري وهو ما تعهّد به منذ التأسيس، وهو مطالب بالتقدّم بصورة ملموسة على طريق إنجاز هذا الهدف، وعليه بالتّالي تخطّي كل العراقيل الذاتية والموضوعية وتوفير الشروط الضّرورية لهذا التغيير عبر الثورة الشّعبية.
هناك شرطان أساسيان لإنجاز هذه المهمّة:
الشّرط الأول موضوعي ويتمثّل في وعي وقناعة الجماهير الشّعبية من عمّال وفلاحين وشغيلة وشباب ونساء ومثقّفين ومبدعين بضرورة التخلّص من النظام الرّجعي القديم المُهترئ باعتباره عقبة جدية أمام إمكانيّة تحسين أوضاعه المعيشيّة وضمان حرّيته وكرامته وسيادته الوطنية، واستعداده العملي للنّضال من أجل التّغيير المنشود. وفي هذا السّياق فإن القوى الثورية وفي مقدّمتها حزب العمّال مطالبة برفع المعنويات والتأكيد على مخاطر المشروع القائم والدعاية الواسعة والمكثّفة من أجل الإقناع بالبرنامج البديل – برنامج الديمقراطية الشّعبية – وأهمية وضرورة الانخراط في تحقيقه على أرض الواقع باعتباره أداة الإنقاذ الحقيقيّة.
وفي هذا الإطار فإنّ القوى الثوريّة مطالبة بمعالجة حالة الجزر وتراجع المعنويّات السّائدة حاليا والعمل وفق مخطّط مدروسٍ على استرجاع الثّقة في النضال والمُراكمة على طريق ذلك عبر تكتيكات مَرِنة من شأنها إعادة الاعتبار للنّضال الميداني والاحتجاج السّلمي المدني المنظّم كأحد أدوات التغيير قبل استتباب الأمر نهائيا للقوى الرّجعية المدعومة من جهات داخليّة وخارجية.
الشرط الثاني ذاتي وفي علاقة جدليّة بالأوّل ويتمثّل في تطوير قدرات الحزب ومنظماته المختلفة وإعدادها فكريّا وسياسيّا وعمليّا حتى تكثّف من أنشطتها وتتمكّن من كسر الحواجز المختلفة التي تحول دون الانغراس والقدرة على تعبئة أوسع الجماهير صاحبة المصلحة في التّغيير.
إنّ هياكل ومنظّماتٍ نشيطة وفاعلة ومستوعبة جيّدا لبرنامج الديمقراطية الشّعبية وللمشروع ككلّ، ومدركة للحالة التي عليها جماهير العمّال والشّباب والنساء وعموم الشّعب ولمزاجها العام وقادرة على الجدل والإقناع والاستقطاب والتنظيم، يمكنها أن تلعب دورا هامًّا وأساسيًّا في إنضاج ظروف التّغيير المنشود الذي يخدم مصالح وتطلّعات الأغلبية الشعبيّة.
إن التطوير الفكري والسياسي للحزب وصقل الكوادر وتوسيع صفوفه بخِيرة العناصر العمّالية والشّعبية والشّبابية والنّسائية المستعدّة للنضال – وهو أمر مُمكن رغم صعوبة الظّروف الموضوعية – من شأنه أن يهيّئه للعب الأدوار الأولى في استقطاب أوسع الفئات والفعاليّات والنُّخب المستعدّة للنّضال من أجل التغيير والتقدّم. أمّا البقاء على الرّبوة والاكتفاء بالتّعبير عن المواقف من مختلف القضايا مهما كانت صائبة فلا يقدّم ولا يؤخّر.
المطلوب إقناع الجماهير الواسعة بأنّ الديمقراطية الشّعبية هي بديلها وهي المعالجة الحقيقية لمأساتها وقهرها الطبقي وفقرها وتبعيّتها للقوى الاستعمارية التي تنهب ثرواتها وتمتصّ دماء شغيلتها.
فإلى العمل الجادِّ وربط الماضي – ماضي التّأسيس المشرق، عنوان الوحدة والثّبات على المبادئ – بالحاضر، رغم الصّعوبات والتّعقيدات التي فرضتها الثورة المضادة، من أجل إحداث نقلة نوعيّةٍ على كل الأصْعِدة. إنّها مهمّة كل الثّوريين، وحتما ستنتصر إرادة التّغيير.