(*) بقلم إيناس ميعادي
عرف الاتحاد العام التونسي للشغل منذ انعقاد مؤتمره الأخير والانقلاب على الفصل 20 حالة غير مسبوقة من الصّراعات أدّت إلى أزمة داخلية عميقة ومُعقّدة تلاها انعقاد المجلس الوطني الذّي ظلّت أشغاله غير منتهية، وهو ما زاد في حدة صراعاته الدّاخلية وانشقاقاته وجعل المُنظمة “اليوم وهنا ” تعرف أزمة خطيرة خاصة في ظل استهداف منظومة الحكم الانقلابية له شأنه في ذلك شأن بقية الأجسام الوسيطة من أحزاب وجمعيات.
إلاّ أنّ ذلك يتطلّب العودة إلى سلوك الاتحاد العام التونسي بعد 25 جويلية 2021. فقد أعطى الاتّحاد العام التونسي للشغل صكّا على بياض إبان انقلاب 25 جويلية 2021 لسلطة الانقلاب التي تمادت بعد ذلك في حلّ الهيئات الدستورية وإصدار المراسيم لعلّ أهمها المرسوم 54، ونظمت استفتاء صوريا على الدستور الجديد لاستكمال حلقة الحكم الشعبوية والإيهام بسيادة الشعب. قبل ذلك أعلن الاتحاد عن مبادرة رباعية “ولدت ميتة” مع بقية منظمات المجتمع المدني يقودها وهم تنظيم حوار وطني تلعب فيه البيروقراطية أدوارا كما جرى في السابق. ولكن سلطة الانقلاب تجاهلت هذه المبادرة بل وتجاهلت البيروقراطية النقابية أصلا وفرضت عليها قطيعة شبه تامة. في مرحلة لاحقة انطلقت حملة تتبعات وإيفاقات لنقابيين لأسباب مختلفة وعديدة… وإلى جانب ذلك سعت منظومة 25 جويلية إلى توسيع نطاق مناخ الخوف وأذنت بأشكال مباشرة وغير مباشرة بشن حملات شيطنة ضد الاتحاد العام التونسي للشغل وتشويه صورته وإضعافه والتشكيك في مصداقيته ومحاولة تفكيكه من الدّاخل عبر زرع بعض الاتباع والبيادق المتذيلين لسلطة الانقلاب.
لكن هذا لا يجب أن يحجب عنّا حقيقة الوضع الداخلي المتأزم جراء غياب الدّيمقراطية الداخلية صلبه وفي هياكله وتفاقم الممارسات والأساليب التعسفية والفوقية المسقطة والتي تتنافى مع أبسط مقومات التسيير الديمقراطي. يتمظهر ذلك في السّيطرة المُفرطة على آليات القرار ووضع اليد على الهياكل وتوجيهها والتحكّم فيها وفي قراراتها (باستثناء بعض القطاعات…) والابتعاد أكثر فأكثر عن القيم التي نادت بها المنظّمة. لقد تفشت البقرطة والزّبونية ومنطق الولاءات والتقرب من القيادة والتسلق واللهث وراء خدمة الأغراض الشخصية.
من جانب آخر تراجع الأداء النقابي وانتشرت مفاهيم وأساليب “النّضال النّاعم” وفقد العمل النقابي الطابع الكفاحي الذي تميز به في بعض الفترات من تاريخ الاتحاد.
ومن العوامل التي أثرت سلبا في وضع الاتحاد أيضا هو عدم قدرته على استيعاب التطور الحاصل في مجال التنظيم والتسيير فرغم تنوّع المكونين ووفرة الوحدات التكوينية لم يكن في الموعد مع نظريات ثورة تكنولوجيا المعلومات ولم ينتبه لنظرية الحتميّة التّكنولوجية ونظرية انتشار المستحدثات التي تدخلت في تغير نمط العيش ومقاربات الربح السريع التّي باغتته والتي لم يبحث في ارتباطها وتأثيرها الكبير على الطبقة العاملة بالفكر والساعد.
لقد عرفت الطبقة العاملة في العشريات الأخيرة تحولات هامة طالت تركيبتها وتوقعها في سيرورات الإنتاج ولكن أيضا ذهنيتها ووعيها. فقد عرفت ظهور أشكال جديدة أكثر هشاشة (البرباشة، الديليفري، العمل عن بعد…) من شأنها أن تؤثر على طرق عمل النقابيين صلب هذه الفصائل من العمال والكادحين. فتعاطى مع ذلك بأساليب عمل محافظة ولم يعصر طرق عمله رغم طفرة تكنولوجيا الاتصال والتواصل…
العنصر الثالث وهو عنصر هام يتمثل في وفود منخرطين جدد في الاتحاد إثر ثورة 14 جانفي 2011 مع ظهور تعددية نقابية غير مكتملة العناصر والأهداف والملامح، إلا أنه رغم ذلك استطاع الاتحاد أن يحافظ على وزنه الاجتماعي في الساحة الوطنية ولعب أدوارا مهمة في منعرجات كبيرة وخطيرة مرت بها البلاد. ولكنه وللأسف لم يستثمر هذا الرّصيد النضالي وهذا الإرث النقابي في تحصين النقابيات والنقابيين سواء الوافدين الجدد من الوظيفة العمومية أو القطاع العام أو القطاع الخاص وفي ترسيخ قيم النضالية والدّيمقراطية والاستقلالي، على العكس من ذلك انتشرت في صفوفه عقلية إنكار الواقع، واقع الأزمة وانتهج سبل الصد في وجه النقد والجدل والنقاش ولم يتورع عن ممارسة التجميد والإقصاء وسبل التعسف تجاه محاولات النقد كلما فتح باب النقاش للبحث في أسباب الأزمة.
في الجهة الأخرى تعمّد قيس سعيد منذ مجيئه للحكم غلق بابا التفاوض والحوار الاجتماعي في وجه الاتحاد سواء فيما يخص الأجور او مراجعة القوانين الشغلية أو ظروف العمل أو الخدمات العمومية والاجتماعية. وبنفس المنطق أعلنت حكوماته ومن جانب واحد الترفيع (المهزلة) في الأجر الأدنى الصناعي والفلاحي وشرعت في مراجعة بعض أحكام مجلة الشغل دون استشارة الاتحاد أو تشريكه وهو ما يعد ضربا للعمل النقابي ونسفا منهجيا للحوار الاجتماعي وسطوا على دوار الاتحاد. ولا شك أن مثل هذه التوجهات من شأنها ـن تؤدي إلى تكاثر النزاعات الشغلية وتوتر الأجواء العامة وتعكر المناخ الاجتماعي بشكل عام.
إن الشعبوية بصدد تنضيج شروط النقمة في صفوف العمال عكس ما تتصور من أنها قد اطمأنت على المسك بالأوضاع بيد من حديد. وستكون الكلفة الاجتماعية غالية وستجبر منظومة الحكم الشعبوية على تسديد فاتورة ذلك. إن احتدام ظروف الأزمة العامة بصدد توفير الشروط الموضوعية لتطور الوعي ومن ثمة إلى اندلاع احتجاجات لم تقدر السلطة على التحكم فيها. وحتى تكون هذه الاحتجاجات في مسارها الصحيح سيكون على الاتحاد أن يلعب دوره كمؤطر وكقيادة تتمتع بالمصداقية والثقة.
ولن يتسنى ذلك ما لم يتجاوز الاتحاد العاهات الخطيرة التي خلفتها سنوات من سيطرة القيادات البيروقراطية عليه. إن تغيير أوضاع الاتحاد باتجاه إعادة الاعتبار لقيم وشعارات الاستقلالية والنضالية والديمقراطية وتخليصه من البيروقراطية هو أمر ملح بل هو شرط لا مناص منه لكي يتحول إلى منظمة يقبل العمال على الانخراط فيها والنضال تحت قيادتها.
ويعتبر المؤتمر الاستثنائي، في ظل ما يعيشه الاتحاد من أزمة، هو المدخل لا فقط لتجاوز الأزمة وإنما أيضا لبناء منظمة من نوع جديد، منظمة مستقلة وديمقراطية ومناضلة وموحدة الصفوف وذات وزن في المجتمع ومهابة من طرف الأعراف والدولة.
(*) نقابية