بقلم علي البعزاوي
ما فتىء الرئيس قيس سعيد يندّد بالتدخلات الخارجية في الشأن المحلي التونسي ويرفض بيانات الدول والهيئات والمنظمات الحقوقية التي تعبّر بمستويات وأشكال مختلفة ومن منطلقات متباينة عن رفضها التضييق على الحريات والمحاكمات الجائرة التي لا تضمن حق الدفاع على المتهمين ولا تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة. وبينما تعبّر الدول عن هذا الاستياء/الرفض من زاوية الحفاظ على النظام القائم ومساعدته على الاستمرار في الحكم وتكريس نفس الخيارات الرأسمالية التابعة التي تخدم مصالحها وتضمن أوفر الأرباح لشركاتها المنتصبة في تونس (ألمانيا، فرنسا…) فإن هدف المنظمات الحقوقية (العفو الدولية، هيومن رايتش ووتش، مراسلون بلا حدود…) هو تكريس واحترام الحقوق الأساسية للإنسان (حرية النشاط والإعلام والتظاهر السلمي وضمان المحاكمة العادلة…) من منظور بورجوازي ليبرالي. وقد لعبت هذا الدور عبر التاريخ تجاه دول المركز الرأسمالي وتجاه الدول التابعة من مختلف القارات ولم تستثني أحدا.
ولئن حافظت تدخلات المنظمات الحقوقية على بعض الموضوعية والحيادية فإن تدخلات الدول تخضع دوما للحسابات السياسية وتختلف باختلاف العلاقات والمصالح.
تداعيات الخطاب الرسمي
لقد تسلل خطاب السيادة الوطنية إلى وسائل الإعلام العمومية والخاصة ليصبح موضوع الساعة. وتراوحت المواقف بشأنه بين مساند أو متظاهر بالمساندة وبين مشكّك وفاضح لرياء هذا الشعار لعدم تطابقه مع الممارسة. كما سرى هذا الخطاب لدى جمهور الموالاة ليصبح موضوع دعاية عبر وسائل التواصل الاجتماعي في مشاهد شبيهة بجماهير كرة القدم التي تستنبط شعارات للدفاع عن فرقها المفضلة. وكان هذا الشعار عنوان وقفة تضامنية مع الرئيس أمام المسرح البلدي بالعاصمة يوم غرة ماي الجاري ضدّ محاولات التدخل الأجنبي حضرتها أعداد متواضعة (بعض المئات) رغم التحشيد والدعوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتسخير الحافلات من عديد الجهات لإنجاح الوقفة التي جاءت في الحقيقة كمحاولة للردّ على التحرك الذي نظمه الاتحاد العام التونسي للشغل بمناسبة العيد العالمي للعمال ولمنافسة الحراك الذي نظمته المعارضة ليس للدفاع عن التدخل الأجنبي طبعا لان أغلب الأحزاب والمنظمات وخاصة منها الديمقراطية والتقدمية ترفضه، بل للتنديد بالقمع والتضييق على الحريات وضد المحاكمات الجائرة التي يسعى من خلالها الحكم القائم إلى بثّ الرعب صلب الشعب ونخبه وتعبيراته المختلفة في محاولة لثنيها عن الاضطلاع بدورها السياسي والاجتماعي وفي مقدمته التصدي للاستبداد وتفكيكه قبل أن يصبح أمرا واقعا داخل المجتمع.
حكم جديد لا علاقة له بمصالح الشعب ولا بالسيادة الوطنية
إنّ ما يريده الرئيس قيس سعيد وحكومته وبرلمانه وكل المنظومة الشعبوية الحاكمة هو إدارة شؤون الدولة عبر التعليمات والإجراءات خارج دولة القانون والمؤسسات وخارج أيّ رقابة أو محاسبة. رئيس يضبط الخيارات والتوجهات العامة والسياسات ويعيّن المسؤولين في مختلف المستويات بعيدا عن أيّ رقابة شعبية أو محاسبة وهذا مضمّن في دستور2022. وهناك جهات أخرى في السلطة تتمثل في الحكومة والبرلمان ومجلس الأقاليم والجهات والولاة والمعتمدين والعمد تلعب دورا وظيفيا مهمتها تطبيق التعليمات وتنفيذ القرارات. ومن لا “يتحمّل المسؤولية كاملة” تسحب منه “الوكالة” وهذا ما حصل لرؤساء حكومات ووزراء وولاة وغيرهم من المسؤولين وبأعداد غير مسبوقة دون تقديم أيّ توضيحات حول أسباب هذه الإعفاءات حتى يتأكد الشعب صاحب المصلحة من حقيقة ما يحصل.
مثل هذا الشكل من السلطة يعتبر في الأعراف السياسية التقليدية حكما فرديا مطلقا لأنه يسحب من المؤسسات التمثيلية المنتخبة دور وصفة السلطة ويعتبرها مجرد وظائف ويغيب المحاسبة سواء من خلال قضاء مستقل يعمل كسلطة أو من خلال هيئات رقابية مختصة ويهمّش دور الإعلام كوسيط بين الحكم والشعب وكناقل أمين لحقيقة ما يحدث في البلاد حتى يكون الشعب على بيّنة ممّا يحصل.
هذا الشكل من الحكم اللاديمقراطي يعتبر أكثر عرضة للخطأ والفشل خاصة عندما يتبنى نفس الخيارات النيوليبرالية المتوحشة المملاة من الدوائر المالية العالمية والسياسات التي انتهجتها منظومات الحكم السابقة وكانت سببا في تعميق التبعية للخارج ورهن البلاد للقوى الاستعمارية واستفحال الأزمة على كل الأصعدة. لذا يضطر إلى توسيع دائرة القمع وإحكام القبضة على الشعب ونخبه من أحزاب ومنظمات وجمعيات وإعلام في محاولة لفرض الصمت وقبول الأمر الواقع على الجميع. وكل انتقاد داخلي ينظر إليه من زاوية التآمر على استقرار السلطة وعلى رأس هذه السلطة. أمّا عندما يتعلق الأمر بانتقادات من جهات خارجية سواء كانت حكومات أو منظمات حقوقية فالمسألة تصبح اعتداء على “السيادة الوطنية” -اقرأ اعتداء على النظام القائم- وتدخلا سافرا في الشأن المحلي.
هل تشكل الانتقادات تدخلا في الشأن المحلي؟
هناك مصدران أساسيان للانتقادات الأولى تصدر عن الحكومات سواء الصديقة للحكم القائم والداعمة له والتي تبحث من خلال هذه الانتقادات عن لفت نظره إلى ضرورة تعديل سلوكه بما ينسجم مع القوانين الدولية والخيارات المتفق بشأنها لضمان استقراره وبقائه في السلطة وبالتالي سدّ الباب أمام تغييرات شعبية محتملة يمكن أن تعصف بمصالح هذه الدول الصديقة التي تربطها معاهدات وشراكات واتفاقيات تعاون معه، أو التي تصدر عن حكومات مناوئة هدفها التشهير بالنظام القائم من أجل التشكيك في مصداقيته وقدرته على إدارة الحكم وبالتالي المراكمة على طريق إضعافه وسحب البساط من تحت أقدامه. إنّ الدول التي تكثف من استثماراتها في تونس وتمكن النظام القائم من القروض والمساعدات والهبات وتجرّه إلى عقد اتفاقيات واتخاذ مواقف خادمة لمصالحها لا ترى مانعا في توجيه الانتقادات بل تعتبرها ضرورية من أجل تصحيح المسارات وحماية المصالح المشتركة.
هذا لا يعني أنّ هذه التدخلات مشروعة مهما اتخذت من أشكال. لكن من يريد سدّ أبواب الانتقادات حفاظا على سيادته الوطنية فعليه أولا وقبل كل شيء القطع مع سياسات الاقتراض والتداين الخارجي وإيقاف العمل بالاتفاقيات الماسة بالسيادة الوطنية مثل تلقي مساعدات من البنتاغون والانتماء إلى حلف الناتو بصفة ملاحظ غير عضو وحضور اجتماعاته جنبا إلى جنب مع الكيان الصهيوني. ومراجعة اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي أدّت إلى غلق المؤسسات الاقتصادية المحلية وتسريح آلاف العمال (400 ألف عامل وقع تسريحهم وفق دراسة للاتحاد العام التونسي للشغل) ومراجعة اتفاقيات الهجرة الممضاة مع إيطاليا والاتحاد الأوروبي والتي أضرت كثيرا بسمعة تونس خاصة في الأوساط الإفريقية والحقوقية العالمية وشكلت غطاء لترحيل المهاجرين التونسيين غير النظاميين بطرق مخلّة بالكرامة الإنسانية.
أمّا الانتقادات الصادرة عن جهات حقوقية غير حكومية (منظمة العفو الدولية، هيومن رايتس واتش، المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان…) فالمسألة طبيعية ومعمول بها في سائر أنحاء العالم ولا تعتبر تدخلا في الشؤون المحلية إذا جاءت من منظمات غير حكومية لأن هذه الأخيرة تنتقد كل الممارسات والسياسات التي تتناقض مع قيم ومبادئ حقوق الإنسان وتتعارض مع القوانين الدولية. وهي توجّه انتقاداتها للدول الرأسمالية الكبرى وللكيان الصهيوني وللدول التابعة على حد سواء، الغنية والفقيرة وغيرها ولا تستثني أحدا. هذه المنظمات ليست لها أجندات سياسية وهي معروفة بحياديتها رغم انتمائها للمنظومة الحقوقية البورجوازية ودفاعها عن قيمها ومبادئها.
إنّ الأنظمة المستقلة فعلا والتي تحترم شعوبها وتتمسك بسيادتها مطالبة بالتعاطي إيجابيا وبشفافية مع هذه المنظمات والحوار معها والاستجابة إذا لزم الأمر لطلباتها واقتراحاتها لأنها في الأخير تخدم النظام الحاكم نفسه وتساعده على معالجة أخطائه وتجاوزاته.
تونس ليست مستقلة ولا تتمتع بالسيادة
إنّ اتفاقية الاستقلال الممضاة بين تونس والسلطات الاستعمارية الفرنسية لئن أتاحت الفرصة لخروج المستعمر ومغادرة جيوشه التراب التونسي فإنها مكنته من الحفاظ على مصالحه الاقتصادية والثقافية والسياسية عبر التسليف النقدي المشروط والاستثمار في قطاعات محددة بما يسمح للشركات الأجنبية بتحقيق أوفر الأرباح على حساب الشغيلة التونسية التي تتقاضى مقابل عملها أجور بؤس وتمنع من حق النشاط النقابي إلى جانب نهب الثروات المحلية من ملح وبترول وفسفاط… إضافة إلى زيت الزيتون والتمور والقوارص والسمك الرفيع وغيره والتي تصدّر بأسعار زهيدة.
لقد حدد المستعمر بتواطىء من البورجوازية الكبيرة العميلة وتعبيراتها السياسية الدور الذي تلعبه تونس في إطار ما يسمّى بالتقسيم العالمي للعمل. فهي سوق مفتوحة للسلع والمواد المصنعة في الخارج مقابل تصدير المواد الأولية وبعض المنتوجات الأخرى المصنعة محليا من طرف الشركات الأجنبية المنتصبة في تونس (قطع السيارات، ملابس، أحذية…) أو شركات تونسية تعمل بالمناولة في إطار شراكة مع مستثمرين أجانب.
هذا النوع من الاقتصاد الذي يتميز بالتبعية والهشاشة لا يمكن أن يتطور ويزدهر بصفة مستقلة ولا ينمّي قوى الإنتاج المحلية ولا يستطيع التوسّع وتحقيق القيمة المضافة لأن المرابيح الحاصلة لا يعاد توظيفها محليا بل ترسل للخارج ليقع استثمارها في بلدان المركز. وبهذه الطريقة يظل الاقتصاد التونسي مرتبطا عضويا بالاقتصاد الاستعماري ولا يتنفس إلا بتدخل منه. وهذا يفتح أبواب الإملاءات السياسية وخدمة الأجندات والمصالح المشبوهة. وهو ما حصل ويحصل في علاقة بقضايا التحرر الوطني وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
ومن هذه الزاوية فإن الدفاع عن السيادة الوطنية يصبح مجرد شقشقة لفظية وشعارا فضفاضا لا علاقة له بحقيقة ما يحدث على الأرض، بل مجرد محاولة للحفاظ على المنظومة الحاكمة.
من أجل سيادة وطنية حقيقية
تونس بحاجة لكي تنهض وتتقدم وتلتحق بركب الدول المصنعة وتبني اقتصادا وطنيا مستقلا يوفر الحاجيات الأساسية للبلاد والرخاء للشعب، إلى ثورة شعبية تطيح بمنظومة الاستعمار الجديد القائمة منذ 1956 إلى اليوم وتبني على أنقاضها منظومة وطنية وديمقراطية وشعبية أي دولة مستقلة وذات سيادة قادرة على اتخاذ قراراتها وبلورة سياساتها بالاعتماد على شعبها دون إملاءات خارجية. بهذا المعني يمكن الحديث عن السيادة الوطنية والدفاع عنها باستحقاق. ويمكن أن تصبح تونس مثالا يحتذى به في الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وقادرة على دعم قضايا التحرر في العالم دون خوف من وقف المساعدات المسمومة والقروض المشروطة.
في هذه الحالة ستتعاطى المنظمات غير الحكومية مع تونس الجديدة باحترام وتقدير وستدعو بلا شك دول العالم إلى الاستفادة من هذا النموذج الجديد والاقتداء بهذه التجربة الرائدة. وهو ما حصل خلال السنوات الأولى من ثورة الحرية والكرامة سنة 2011 حيث ظلت تونس الثورة نموذجا يحتذى به بين شعوب العالم قبل أن يقع الالتفاف عليها وإجهاضها.
السلطة للشعب من أجل السيادة الوطنية والديمقراطية الشعبية والعدالة الاجتماعية.