الرئيسية / صوت الوطن / بطاقة الشهيد
بطاقة الشهيد

بطاقة الشهيد

بقلم محمود الدقي

الاسم: نبيل
اللقب: بركاتي
الأب: سالم البركاتي (سلومة)
الأم: صالحة البركاتي (الحاجة صالحة)
المدينة: قعفور – الحومة (حومة التوانسة)
الانتماء: عضو حزب العمال الشيوعي التونسي (حزب العمال)
ليلة الإيقاف: 27 أفريل سليانة ثمّ قعفور

مركز قعفور هو مسرح الجريمة الذي يقع وسط المدينة بين حومة السوق وحي السيتي، بجانب محطة القطار. في مدخل المركز قاعة كبيرة تؤثثها طاولة وآلة رقن على يمينها قاعة أخرى تحتوي على دكة ومكتب رئيس المركز. أمّا قبالة المدخل الرئيسي فهناك باب مغلق وراءه الجحيم: ممرّ طويل على يمينه غرفة إيقاف أولى (جيول) ثم غرفة ثانية مثلها يقابلهما حائط مغبرّ. وفي آخر الممرّ تكمن زنزانة أخرى معزولة وبعيدة تماما عن الشارع وعن مدخل المركز وعن خطى الداخلين والخارجين ويحجبها عن الشارع الخلفي وعن الشمس سور سميك وعال، خلفه السكة الحديدية.
وتلك الغرفة المقصية والخفية هي التي كانت مسرح الجريمة: قاعة إيقاف وتعذيب واغتيال رفيقنا شهيد الحرية.
إيقاف الشهيد نبيل تمّ يوم 27 افريل 1987 على إثر توزيع بيان حزب العمال “الصراع الدستوري الخوانجي لا مصلحة للشعب فيه”، لكنه أيضا كان استهدافا على خلفية نشاط الحزب على المستوى الوطني عامة وعلى المستوى الجهوي خاصة وعلى المستوى المحلي بڤعفور بشكل أخص.
كان نبيل ورفاقه يؤرقون السلط بشكل ملفت للانتباه، يزعجونهم بالدفاع عن الحقوق والتحركات المطلبية. وكان الصراع مباشرا مع السلط، يرادفه صراع ثان مع الخوانجية عبر حلقات نقاش فكرية فلسفية تناظر بين المشروع الظلامي والمشروع الاشتراكي. خلقت تلك النقاشات ديناميكية كبيرة استفزت السلطات الجهوية والمحلية ممثلة في الوالي والمعتمد وخاصة خاصة رئيس مركز الشرطة (الحاج). كان ذلك الجلاد رئيس مركز الشرطة وفي نفس الوقت خوانجي متزمّت وهذا ما أثار حفيظته ضدّ نبيل ورفاقه، فالحاج ينفذ تعليمات النظام وفي نفس الوقت هو حارس المعبد.
وقبل إيقاف نبيل كان ش.ج. رفيقا يحظى بكل الاحترام والتقدير وقد تمّ إلقاء القبض عليه قبل أيام من إيقاف نبيل، وعذّب تعذيبا شديدا لمدة غير قصيرة. صمد ش. قدر استطاعته، حتى أجبره التعذيب الوحشي على الاعتراف وكان اعترافه محدودا، مقتصرا على ذكر اسم نبيل فقط ولم يذكر أسماء بقية رفاقه أو بيانات عن هيكله الحزبي. وكان بذلك ينفذ تعليمات نبيل نفسه والذي كانت توصيته للرفاق في كل الهياكل التي يشرف عليها بألا يعترفوا بأسماء رفاقهم ورفيقاتهم لحظة الانهيار وأن يكتفوا بتأكيد أنّ من أعطاهم المناشير هو نبيل فقط. ويكمل قوله: “أنا توّ نتصرّف” وهذا ما افتكه الجلاد من الرفيق بعد تعذيب وحشي دام أياما نفّذ خلالها توصيات نبيل المشرف على الهيكل.
تمّ بعد ذلك إيقاف بوبكر الفرشيشي فوجد ش. موثوقا بحبل، منتفخ القدم وآثار التعذيب واضحة عليه. أدخل بعدها أعوان الشرطة بكّة (بوبكر) إلى الغرفة وجرّدوه من أدباشه ونال نصيبه من التعذيب. ثم تمّ إيقاف رضا ووقع اقتياده إلى مركز بوعرادة واقتياد كمال العرفاوي إلى مركز الكريب حيث كان ش.
إنّ الحديث عن الجريمة التي تعرّض لها رفيقنا الشهيد ورفاقه الناجون من الموت تحت التعذيب والتي تلت الاعتقال ليس من نسج الخيال، وليس من أجل كسب التعاطف. من غرفة التعذيب المعتمة في مركز قعفور، مسرح الجريمة المخفي، يرفع الشهيد صوته ينادي… بحثا عن صدًى له… عن أمل يوقف جرحه النازف من أجل إنقاذ حياة رفاقه الشباب – ورود الحزب الشاب بدوره – ويوقف الوحش الذي يمتصّ رحيق أعمارهم في معتقل نظام الدكتاتور الشيخ، بقيادة الدكتاتور القادم آنذاك مدير الأمن ووزير الداخلية… الرفاق مكانهم ليس هنا… ولم يكن هنا يوماً. فهم لم يخلقوا ليكونوا حطباً في محرقة النظام الدكتاتوري يغذيها بالحقد وشهوة الانتقام لمجرد أنهم حلموا بوطن حر يحفظ حقوقهم وحقوق أبناء شعبهم.

ملحمة الصمود

تعرض الرفيق لجميع أشكال التعذيب الوحشي المتواصل دون انقطاع ليلا نهارا مدة خمسة عشر يوما، محروما من الأكل والشرب، يقتلعون أظافره ويطفئون أعقاب السجائر في جميع أجزاء جسده، يعلقونه في وضع “الدجاجة روتي” على عمود بين طاولة وكرسي، يضربونه بأدوات صلبة على جميع أجزاء جسده… نفثوا كل ما في صدورهم من سموم وفي الغرف المجاورة كان يتمّ استنطاق الرفاق الموقوفين وتعذيبهم: بوبكر الفرشيشي، علي الطرابلسي، طارق البركاتي، الهادي المناعي، فتحي المرواني. وبما أنّ الغرف كانت قريبة من بعضها فقد كان نبيل يسمع محتوى الاستجواب وكان يصرخ من غرفته “ما تخافوش منهم ما تصدقوهمش يكذبوا عليكم” بغاية تشجيع رفاقه وتخفيف الضغط عنهم… من شدة الإرهاق والألم أصبح نبيل عاجزا عن الكلام والحركة.
وفي شهادة لأحد الرفاق، طارق البركاتي، روى أنهم أحضروا نبيل لمكافحة بينهما بغاية التعرف على طارق فأجابهم بإشارة من رأسه تعني أنه لا يعرفه ولا علاقة له بالتنظيم. وكان حينها يقترب من آخر أيامه. زاد غضب حاج الجريمة، وفي الليلة الأخيرة، بعد حصص التعذيب وفي الهزيع الأخير من الليل، في توقيت السحور، دخل حاجة الجريمة على نبيل المكبل والمنهك وسأله السؤال الأخير: “يا نبيل أعطينا معلومة ولو بسيطة، ولو لا تعني شيئا وانصرف” كان يبحث عن مخرج حتى لا يشعر بالهزيمة فأجابه نبيل: “الشيوعي لا يعرف الانحناء وسيجيبكم الشعب ذات يوم”.
فجنّ جنون حاج الجريمة وفقد صوابه وانهالت الضربات بجنون حتى فقد نبيل الوعي.
فحبكوا مسرحيتهم السخيفة واستجاروا بأحد القوادة، شكري كاتب الشيخ، لانتحال شخصية نبيل وأخرجوه من المركز عاريا يجري وهم ينادون عليه: “يا نبيل ارجع يزّي” أرادوا من خلال ذلك أن يسوّقوا للجيران أنّ نبيل هرب.
في حين أنهم ألقوا به في أنبوب الصرف الصحي بحومة الحي القبلي، ممددًا على بطنه ورجلاه ممددتان إلى الوراء بداخل القناة ويداه إلى الوراء، عاري الجسم إلا من تبّان، منكبًّا على وجهه الذي تكسوه الدماء وبركة من الدماء أسفل رأسه ولا أثر للدم على بقية جسمه.
وقرب جسد الرفيق الشهيد تمّ العثور على ظرف خرطوشة مستعمل على مستوى الرأس، وعلى مسدّس أيضًا أسفل رجله. وقد أكد وقتها رئيس الشرطة الفنية استحالة رفع الفضلات عن المسدس، في محاولة لإثبات واقعة الانتحار ونفي جريمة الاغتيال وطمس الدليل عليها.

انتفاضة الشهيد

لم تنطل مسرحية الانتحار على الأهالي وحين سمعت العائلة بالخبر توجّه أخ الشهيد رضا إلى معهد قعفور أين يدرّس، في حدود العاشرة وقت الراحة وألقى خطابا قصيرا مفاده أن النظام البورقيبي الفاشي اغتال أخاه نبيل ودعا التلاميذ والأساتذة للاحتفال بارتقاء أخيه شهيدا للحرية. وبعدها انطلقت مسيرة احتجاجية من المعهد باتجاه وسط المدينة وجابت كل أرجائها، كل الأحياء وكل الشوارع منادية بحق الشهيد وكشف الحقيقة وإطلاق سراح المعتقلين. هاج المحتجون وتوّجوا غضبهم باقتحام المركز وجاءت التعزيزات من جميع فصائل الأمن: خيالة ومدرعات وسيارات كبيرة وصغيرة، أحضروا كلاب البوب وتحوّلت المدينة إلى ساحة حرب: مواجهات مباشرة بين المحتجين وفصائل الأمن، استعمال كثيف للقنابل المسيلة للدموع وأطلق الرصاص الحي وأعلنت حالة طوارئ في الجهة. ورغم إعلان حالة الطوارئ، والحصار الأمني الكثيف فقد تواصلت الاحتجاجات والمسيرات بشكل يومي. كانت تنطلق من أمام منزل الشهيد وتجوب الشوارع وتتحول إلى مواجهات مباشرة تستمر إلى حدود وقت متأخر من الليل. ودامت المعركة أو الانتفاضة أياما متواصلة بلياليها – ونقول انتفاضة لأنها ممولة بشعارات سياسية على اعتبار أنّ لحزب العمال الشيوعي تأثيره في المنطقة بقيادة نبيل ورفاقه. فكان الشعار التكتيكي لحزب العمال “حريات سياسية لا إرهاب لا فاشية” والشعار المركزي للحزب “خبز، حرية كرامة وطنية” يترددان كثيرا خلال التحركات. وحين انتشر الخبر بدأت المناطق المجاورة في التحرك بدورها وذلك بعد أيام من الواقعة وكانت كل المنافذ المؤدية إلى قعفور قد أغلقت فلا دخول ولا خروج. ولكن مناضلي الحزب كان لهم إصرار كبير على نشر الخبر. فاندلع بالمعهد التقني بسليانة الذي كان يدرِّس به الناصر بن رمضان احتجاج سرعان ما أخمد وتحرك بعد ذلك معهد مكثر إبّان وصول الخبر باستشهاد الرفيق نبيل. وفي مكثر تمّ الاتصال ببعض التلميذات والتلاميذ بالتنسيق مع رضا أحد المنتمين للحزب يشتغل نجارا لإعداد لافتة كتب عليها “لا للاغتيال لا للقمع نريد الإفراج عن الموقوفين”، وعلى إثر الاحتجاج داخل المعهد ومحاولات للخروج وسط المدينة، تمّ اعتقال مجموعة من التلاميذ من بينهم الرفيقة رجاء الجعيدي والصديق مهدي الشارف.
ومن المفارقات العجيبة أنهم حين عرضوا على أنظار وكيل الجمهورية كان حاج الجريمة وشركاؤه في نفس الممرّ، طلقاء الأيدي غير مقيّدين في حين كانت السلاسل والأصفاد تكبّل التلاميذ المحتجين. كانت انتفاضة مجيدة وردّ فعل قوي على اغتيال الشهيد وكانت لهذه الانتفاضة مطالبها السياسية. ولكن مدينة الشهيد بقيت للأسف مغمورة، لم تلق الاهتمام حتى بعد سقوط بورقيبة وبن علي. كانت ملحمة قعفور وستظل شاهدة على جزء من محاكمة الشعب التونسي في نضاله من أجل الحرية والكرامة والعدالة.
إنّ عمر نبيل أطول من عمر جلاديه منذ ذلك اليوم 8 ماي أصبحت قعفور قبلة الأحرار والحرائر للمطالبة بتثبيت تاريخ استشهاده يوما وطنيا لمناهضة التعذيب وما زلنا نناضل إلى اليوم وسنظل من أجل ذلك. لأن جميع الحكومات المتعاقبة إلى اليوم لا تريد تجريم التعذيب.
التعذيب بكل أشكاله سلاح الدكتاتورية للاستبداد بالحكم، استعمله جلادو الأمس وتفننوا فيه ويستعمله جلادو اليوم لبث الرعب في القلوب وقد شهدت المراكز والسجون التونسية جرائم تعذيب تفوق في وحشيتها خيال الأفلام السينمائية والشاهد على ذلك جريمة التعذيب التي جدّت منذ أيام وضجت بها وسائل التواصل وحاولت الفاشية الجديدة طمس ملامحها ونفي وجودها بل حتى نفي وجود شهود إثباتها.
ضحّى نبيل بحياته دفاعا عن قناعاته وشعبه وعن رفاقه وحزبه ونواصل نحن النضال على دربه إلى أن يمسك الشعب بزمام الأمور ويحاسب كل من أجرم في حقه وفي حق كل من أحبه وأوفى له، فمن يُكرم الشهيد يتبع خطاه.

إلى الأعلى
×