الرئيسية / أقلام / المؤرّخ عميرة عليّة الصغير: “الاستقلال”: أيّ معنى وأيّة حقيقة؟
المؤرّخ عميرة عليّة الصغير: “الاستقلال”: أيّ معنى وأيّة حقيقة؟

المؤرّخ عميرة عليّة الصغير: “الاستقلال”: أيّ معنى وأيّة حقيقة؟

عميرةأمام اختلافات الكتابات التاريخية، المتعلقة ببروتوكول الاستقلال ل20 مارس 1956 واختلاف تقييمات القوى السياسية له، أردنا العودة للموضوع لتخليصه من التوظيفي السياسي الذي طغى عليه والذي انتهى إلى اختزال قضية الاستقلال الوطني في العبقرية البورقيبة وإلى إسقاط الدور الوطني عن القوى الأخرى التي ساهمت بقسطها في دحر الاستعمار. بين هذه القراءة وتلك تكمن الحقيقة التاريخية وفي هذا السياق توجهنا إلى الدكتور عميرة عليّة الصغير، المختص في التاريخ المعاصر، بالأسئلة التالية :

هل كان “الاستقلال” الوطني ثمرة نضال حزب واحد وزعيم واحد؟

    إنّ إمضاء بروتوكل الاستقلال في 20 مارس من سنة 1956 بين الجانب الوطني والحكومة الفرنسية أتى كثمرة نضالات طويلة وشاقة لم تبدأ فقط مع اندلاع المعركة الحاسمة سنة 1952 بل منذ وطأت أرض تونس أقدام الجيوش الاستعمارية سنة 1881. ولئن تصدّر قيادة الحركة الوطنيّة الحزب الحر الدستوري الجديد وتحمّل العبء الأكبر في التنظيم والتأطير والتوعية ودفع مناضلوه ضريبة الحرية من سجون ومعتقلات ونفي واستشهاد فأنّ قوى أخرى، خلافا لما تسوق له الدعاية الرسمية، ساهمت من موقعها وحسب حجمها في تلك الحركة الوطنية شأن الحزب الدستوري القديم والحزب الشيوعي التونسي وخاصة أولئك التونسيين “جنود الخفاء”  المنظّمين وغير المنظمين، خصوصا منهم من كانوا ضمن ما كان يسمى ب “المنظمات القومية” شأن الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والاتحاد العام للفلاحة التونسية وبالخصوص الاتحاد العام التونسي للشغل الذي دفع ضريبة الدّم مرارا  وعندما اغتالت قوى الاستعمار زعيمه وزعيم الكفاح الوطني فرحات حشاد، في 5 ديسمبر 1952، ومنظمات أخرى كان لها الدور الكبير في تحقيق الاستقلال كالجمعيات الشبابيّة و في مقدّمتها الجمعيات الكشفيّة التي كانت مدارس للوطنية وللتضحية والمنظمات الطلاّبيّة، من طلبة الزيتونة وطلبة الاتحاد العام، كذلك لم تتخلف نساء تونس عن المشاركة في المقاومة الوطنية كمناضلات صلب الأحزاب الوطنية والجمعيات النسائيّة مثل الاتحاد النسائي الإسلامي التونسي والاتحاد النسائي التونسي – الشيوعي- إضافة للمنضوين ضمن الجمعيات الثقافية والفنية والأدبيّة وحتى الرياضية التي كان لها الدور الكبير في ترسيخ الكيان التونسي ومجابهة الاستعمار.

إذن هنالك منسيّون في تاريخ النضال من أجل الاستقلال ؟

     المنسيّون أيضا في ملحمة مقاومة الاستعمار والذين عبّدوا بعرقهم ودمائهم طريق التحرر، أولئك الذين ثاروا في وجه فرنسا رافعين السلاح، ولعلّه من الأجدر التذكير هنا بالبعض من ملاحمهم خاصة وأنّ ورثاءهم من أبنائهم وأحفادهم في جهات البلاد الدّاخليّة ما زالوا لم تشملهم ثمرات الاستقلال كما شملت جهات أخرى ولن نعود هنا لثورة الفراشيش ( تالة ) في 1906 ولا لثورة الودارنة (1915-1917) و لا لثورة المرازيق ( 1942-1943 ) بل نذكّر فحسب ببعض ممن ثاروا رافعين السلاح ضد الاستعمار عندما عجز الكفاح السياسي السلمي على إخضاعه  في خمسينات القرن الماضي. فرق كفاح عديدة تكوّنت، ضمن ما كان يعرف ب ” الفلاّقة”، منذ 1952 منها خاصة : فرق القادة الطاهر لسود (جهة الحامة ثم الكاف وسليانة) و حسن الغيلوفي (جبال الحامة) و زايد الهداجي (جبال مطماطة) ولزهر الشرايطي (جهة قفصة) وفي الوسط محمد علي السّاكري و محمد جلايلة و البرني البناني وعمّار سلوغة والساسي لسود وحسن بن عبد العزيز وعلي ماني (جهة الساحل) وعبد اللطيف زهير (جهة صفاقس) وبلقاسم البازمي (جهة الكاف) ولعجيمي بن مبروك (جهة جلاص) وهلال الفرشيشي (الشمال الشرقي) ومحجوب بن علي (جهة بنزرت وخمير) ومصباح الجربوع وأحمد لزرق وعلي الصيد (المنطقة العسكرية بالجنوب)  وغيرهم، هؤلاء من أبطال تونس الذين فرضوا الاستقلال على فرنسا واستشهد منهم بالعدد 597 رجلا.

     استقلال تونس ساهم فيه جلّ التونسيين  وقاده زعماء نعترف بفضلهم، من عبد العزيز الثعالبي ومحمود الماطري وسليمان بن سليمان والحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف و يوسف الرويسي ومحمد النافع وعلي جراد وفرحات حشاد وغيرهم كثيرين. الا ان الكتابات الرّسميّة وشبه الرّسميّة وحتى كتابات كثير من الجامعيّين، حتى فترة قريبة، درجت على تنزيل المعارضة اليوسفيّة في باب “السّلبي” في تاريخ الحركة الوطنية التّونسيّة بما أنّها معتبرة “فتنة” و”انشقاقا” و”تفتيتا لوحدة الأمّة والحزب” دون بحث جدّي في الفعل التاريخي للمعارضة اليوسفيّة في وجهيها السياسي والعسكري وهو ما يفسّر الرأسمال الاعتباري من التّعاطف الذي حظي به بورقيبة عند المثقفين الفرنكفونيّين بخاصة كرمز للحداثة واللاّئكيّة والعقلانيّة بعكس ما التصق بصورة غريمه بن يوسف من أنّه رجل المحافظة الدّينيّة والاجتماعية وحتّى الرّجعيّة، فنفخوا في دور الأوّل وتفّهوا دور الثاني، معتبرين إمضاء بورتوكول 20 مارس 1956 ثمرة سياسة عبقري وترجمة تاريخيّة ناجحة ل”سياسة المراحل” والبراغماتية التي اعتمدها بورقيبة.

هل تعتبرون اليوسفية حركة مقاومة وطنية أم هي ظاهرة “فتنة” و”صراع من أجل الحكم” ؟

     شهداء المقاومة ليسوا هؤلاء فحسب، هم أيضا الذين عادوا لرفع السلاح، عندما لم تُرضِهم اتفاقيات الاستقلال الداخلي ل 3 جوان 1955 تحت راية ” اليوسفيّة”، أي تحت قيادة صالح بن يوسف، الأمين العام للحزب الحر الدستوري الجديد، الذي رأى هو ومن كان في صفه في تلك الاتفاقيات “خيانة” و”خطوة للخلف”، هؤلاء أيضا والذي دأبت الكتابات، حتى فترة قريبة، على حشرهم ضن الخونة وحشر اليوسفيّين جميعا ضمن “الرّجعيين” وحتى “الاقطاعيين” و”أزلام الاستعمار”، هؤلاء المطالبين بالاستقلال التام والتضامن مع  الثورة الجزائرية سوف يرفعون السلاح بداية من سنة 1955 ولم يضع أغلبهم سلاحه إلا عندما اعترفت فرنسا باستقلال البلاد كاملا. كانوا حوالي 2000 مقاوم منضوين في “جيش التحرير الوطني التونسي” بقيادة الطاهر لسود ومن أبرز قياديي فرقه، نجد الطيب الزلاّق والهادي قدورة والطاهر بن لخضر لغريبي ومصباح النيفر والناصر بن مسعود الوصيف وعبد الله البوعمراني وعبد اللطيف زهير وعمّار بنّي …هؤلاء خاضوا معارك كبيرة خاصة بجنوب البلاد وقدّموا مئات الشهداء من أجل حرية تونس. لذاك وجب الاقرار بانّ المعارضة اليوسفيّة، في مستواها السّياسي والدّعائي وخاصّة في مستواها المسلّح المقاوم، لم تكن حركة خائنين ومخرّبين، بل كان لها دور رئيسي في “إقناع” الدولة الفرنسية بضرورة منح التّونسيّين استقلالهم التّام:

أوّلا لأنّها تيقّنت بأنّ مصالحها ومصالح رعيّتها من الفرنسيّين بتونس أصبحت مهدّدة فعلا مع استشراء حالة انعدام الأمن والفوضى والاعتداءات المتكررة على معمّريها من المقاومين، خاصّة وإنّ هذه المقاومة وضعت في إستراتجيتها محاربة الفرنسيّين واستهدافهم وشمل نشاطها منذ أواخر 1955 حتى بعد صائفة 1956 كامل الشريط الحدودي مع الجزائر وكامل جبال الجنوب التّونسي تقريبا وكانت وقائعها حربا حقيقيّة تدخّل فيها الجيش الفرنسي كما لم يتدخّل في السابق بآلياته الثقيلة وبطائراته وضاهى عدد شهداء هذه المرحلة من المقاومة المسلّحة عدد شهداء سنوات 1952-1954.

ثانيا لقد رأت فرنسا في المقاومة اليوسفيّة خطرا رئيسيّا على وجودها في الجزائر خاصّة وأنّه كان في استراتيجيّة “جيش التّحرير الوطني التّونسي” التّلاحم مع “جيش التّحرير الوطني الجزائري” وكان الثوّار التونسيّون من الحدود مع ليبيا إلى الحدود مع الجزائر في الجنوب يمثّلون همزة وصل حيويّة لإمداد الثّورة التحريريّة في الجزائر بالسّلاح الآتي من الشرق وهذا البعد الإستراتيجي كان ليس خافيا عن الدولة الفرنسيّة وعن جيشها وتشير وثائقها صراحة لهذا الخطر وكانت تجتهد لوضع حدّ له. لذا كان القرار السياسي الفرنسي في تحويل الدولة التونسية النّاشئة إلى دولة “قادرة” إذا دولة “مستقلّة” تخدم الاستراتيجية الفرنسيّة ولو بصورة غير مباشرة بضرب خطر التّلاحم الثوري في المغرب العربي المهدّد لوجودها، خاصّة في الجزائر.

ثالثا سعت فرنسا الى تحجيم المعارضة اليوسفيّة وسحب الغطاء من تحت أقدامها وإبطال مفعول خطابها الذي كان يلقى صدى قوى التّحرّر في العالم العربي ويلقى خاصّة الدّعم السّياسي وحتّى المادّي ممّن تعتبره فرنسا آنذاك عدوّا رئيسيّا لها أي نظام الثورة في مصر وجمال عبد النّاصر، حتّى أنّ مقاومي جبهة التّحرير الجزائريّة كانت تنعتهم الدّعاية الفرنسيّة آنذاك بـ “مرتزقة القاهرة”. لكن الإقرار بالدور الحاسم للمقاومة اليوسفيّة في منح تونس استقلالها لم يغب عن خطب رجال الدولة الفرنسيّة آنذاك عند تبرير سياساتهم. فهاهو آلان سفاري (Alain Savary) وزير الشؤون المغربية والتّونسيّة في الحكومة الفرنسية عند نقاش السياسة الخارجية لفرنسا في شمال إفريقيا في جوان 1956 يوضّح بجلاء ووضوح في البرلمان الفرنسي” إن لم يكن هنالك حلّ آخر إلاّ الاستقلال إذا ما أردنا أن نتفادى توسّع النّزاع ليصبر مأساة فعليّة” وأضاف زميله كلوسترمان Clostermann حجّة أخرى عندما ذكّر بعدد القوّات العسكريّة الضّخم الذي عبّأته فرنسا لمحاربة المقاومة في الريف شمال المغرب سنة 1956 مضيفا لدعاة استعمال القوّة في المغرب وتونس إنّ ذاك يستوجب على الأقلّ تجنيد بين 400 و500 ألف رجل.

وفي هذا السياق نعتقد، مع غيرنا من أصحاب المقاربات الموضوعيّة للمسألة، أنّ استقلال تونس التّام تضافرت لحصوله عوامل مختلفة، منها وضعيّة فرنسا في مستعمراتها وتحوّل الرّأي العام فيها والضغط العالمي المناهض للاستعمار والمناصر لحركات التّحرّر ويمكننا القول بأن تونس “استقلّت” وفق ما سمحت به شروط قوتها وقوة خصمها. كل هذه العوامل والمعطيات تفنّد – في ظنّنا- أسطورة سياسة المراحل وتكذّب ادّعاء أنّ الاستقلال المحرز في 1956 كان حصيلة خطّة ناجحة برمجها الزّعيم وهو لعمري تفسير ما بعدي للتّاريخ ويدخل في باب تزييف حقائقه والسّطو عليه.

   ahmed(“صوت الشّعب”: أجرى الحوار أحمد المولهي)

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×