1972: سنة الحسم بين الحركة الطلابية والسلطة في المغرب وتونس
بقلم أيوب حبراوي
في تاريخ الحركات الطلابية المغاربية، لم تكن سنة 1972 مجرد محطة عابرة، بل مثلت لحظة حاسمة في الاشتباك المفتوح بين الطلبة والنظامين القائمين في كل من المغرب وتونس. في هذا العام، اختارت السلطة أن تخوض معركتها ضد الحركات الطلابية من موقع الهيمنة والقمع، بينما قرر الطلبة، المسلحون بوعي تقدمي، أن يخوضوا معركة الاستقلالية والتنظيم والنضال الشعبي. كانت النتيجة واضحة: انتصار سياسي للطلبة في معركة المبادئ، وهزيمة تكتيكية أمام جبروت القمع الذي وظفته الأنظمة لإخماد أصواتهم.
في تونس، جاءت حركة 5 فيفري كإعلان صريح من الاتحاد العام لطلبة تونس بأنه لم يعد مستعدًا ليكون أداة طيّعة بيد النظام البورقيبي. لقد حاولت السلطة طيلة سنوات احتواء الحركة الطلابية، مستعملةً مزيجًا من القمع والاستيعاب، لكن الطلبة استوعبوا الدرس وأعلنوا القطيعة. في مؤتمرهم الحاسم، قرروا أن الاتحاد ليس مجرد منظمة إدارية لتمثيل الطلبة، بل أداة نضالية، ساحة للمواجهة السياسية، وصوتًا للجماهير الطلابية داخل الجامعة وخارجها. رد النظام كان متوقعًا: إغلاق الجامعات، قمع التجمعات، اعتقالات واسعة، ومحاولة عزل الحركة الطلابية عن نسيجها الشعبي. لكن ما لم تفهمه السلطة آنذاك هو أن الحركة الطلابية التونسية لم تكن معزولة، بل كانت تعبيرًا عن وعي ديمقراطي جماهيري متقدم، يلتقي مع الحركات العمالية والطلابية في بقية أنحاء الوطن العربي والمغرب الكبير.
في المغرب، لم يكن الوضع مختلفًا. المؤتمر الخامس عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب كان آخر المؤتمرات الفعلية التي استطاع الطلبة عقدها قبل أن تحسم السلطة المعركة لصالحها عبر القمع الممنهج والحظر الرسمي للمنظمة. كانت القوى التقدمية، خصوصًا التيارات الماركسية اللينينية الصاعدة آنذاك، قد رسّخت نفوذها داخل الاتحاد، وقررت تبني خطٍ واضح في مواجهة النظام. لم يكن الأمر يتعلق بمطالب جزئية أو تحسين ظروف الدراسة، بل كانت المواجهة مع النظام مواجهة سياسية بامتياز، تستهدف طبيعة الحكم والاستبداد، وتفضح التبعية للإمبريالية والهيمنة الاقتصادية والطبقية. بعد المؤتمر، سارعت الدولة إلى إعلان الاتحاد غير قانوني، وقامت باعتقالات واسعة، وزجّت بالمئات من الطلبة والمناضلين في السجون. لكن رغم ذلك، لم يختفِ الاتحاد من الوعي الجمعي للحركة الطلابية، بل تحول إلى رمز تاريخي للنضال الطلابي، وظلّ تأثيره ممتدًا لعقود طويلة.
إذا نظرنا إلى هذه المرحلة بعيون اليوم، فإننا ندرك أن الحركات الطلابية في المغرب وتونس لم تكن مجرد تنظيمات شبابية معزولة، بل كانت امتدادًا لحركة شعبية أكبر، تعبر عن طموحات جيل بأكمله. لم يكن الطلبة يناضلون فقط من أجل استقلالية الجامعة أو حقوقهم الأكاديمية، بل كانوا في قلب النضال من أجل الديمقراطية الحقيقية والتحرر الوطني والاجتماعي. إن خيار النضال الديمقراطي الجماهيري وخط الشعب لم يكن مجرد شعار نظري، بل كان تكتيكًا استراتيجياً تبنته الحركات الطلابية لأنها أدركت أن المعركة ضد الأنظمة القمعية ليست معركة فئوية، بل معركة مجتمعية شاملة.
ما ميّز تجربة الحركة الطلابية في 1972 لم يكن فقط صمودها أمام القمع، بل أيضًا التنسيق السياسي العميق بين القوى الثورية العاملة داخل الاتحادين، سواء في المغرب أو تونس. فقد أدركت التيارات التقدمية آنذاك أن المواجهة مع الأنظمة القمعية لا يمكن أن تظلّ محصورة في النطاق الطلابي الضيق، بل يجب أن تتكامل مع الحركة العمالية والقوى الثورية الأخرى في المجتمع. في هذا السياق، شهد الاتحاد الوطني لطلبة المغرب والاتحاد العام لطلبة تونس تقاربًا واضحًا بين مختلف الفصائل الماركسية اللينينية والقوى اليسارية التي كانت تعمل على توحيد الجبهة الطلابية كجزء من نضال شعبي أشمل ضد الرجعية والاستبداد. لم يكن هذا التنسيق عفويًا، بل جاء نتيجة وعي استراتيجي بضرورة توحيد المعركة ضد الأنظمة العميلة للإمبريالية، حيث تبادلت القوى الثورية داخل الاتحادين التجارب والخبرات، واستفادت من التحليل المشترك للأوضاع السياسية في البلدين. كان هناك أيضًا تواصل بين الحركات الطلابية المغاربية والعربية، خصوصًا عبر النقابات الطلابية التقدمية في الجزائر وفلسطين ولبنان، حيث لعبت اللقاءات والمؤتمرات الطلابية الإقليمية دورًا كبيرًا في ترسيخ مفهوم النضال الطلابي كجزء من النضال التحرري الأممي.
هذا التنسيق لم يكن فقط نظريًا أو خطابًا سياسيًا، بل ترجم إلى تحركات ميدانية مشتركة، وتبني استراتيجيات نضالية متقاربة، مثل الاعتماد على الإضرابات الجماهيرية، وتنظيم التظاهرات الحاشدة، والانخراط في المواجهة السياسية المباشرة مع الدولة. لقد كان واضحًا أن السلطة في كلا البلدين كانت تدرك خطورة هذا التقارب، فعملت على تفكيكه عبر القمع الممنهج، والتضييق الأمني، ومحاولات زرع الشقاق داخل الحركة الطلابية. لكن رغم ذلك، ظلّ هذا الإرث النضالي أحد أهم المكاسب التي أنتجتها مرحلة 1972، إذ أرسى ثقافة العمل الجبهوي والتنسيق بين القوى الثورية، وهو ما لا تزال الأجيال اللاحقة تستلهمه في معاركها من أجل التحرر والديمقراطية.
في زمننا الحالي، وبعد مرور أكثر من خمسين عامًا على أحداث 1972، نجد أن الأسئلة التي طرحتها تلك المرحلة لا تزال قائمة. هل يمكن لحركة طلابية أن تنهض من جديد في سياق أنظمة تسعى إلى تفتيت كل أشكال التنظيم الجماهيري؟ هل يمكن للطلبة اليوم أن يستعيدوا دورهم التاريخي كمحرك أساسي للتحولات الديمقراطية، أم أن الجامعة أصبحت فضاءً معزولًا عن القضايا السياسية والاجتماعية؟
ما يمكن الجزم به هو أن نضالات 1972 لم تكن معركة خاسرة، بل كانت حلقة من حلقات صراع طويل بين قوى التحرر والقوى الرجعية. وإذا كان النظامان المغربي والتونسي قد نجحا في كسر الدينامية التنظيمية للحركة الطلابية آنذاك، فإنهما لم يتمكنا من القضاء على الوعي الذي زرعته تلك المرحلة. لا يزال الطلبة في تونس والمغرب يواجهون القمع، ولا تزال الجامعة ساحة للصراع، لكن روح 1972 لم تمت. إنها تظلّ مرجعية لكل من يؤمن بأن التغيير لا يمكن أن يأتي إلا من خلال حركة جماهيرية واعية، تضع مصالح الشعب فوق كل اعتبار، وترفض أي مساومة على حقها في النضال من أجل الحرية والعدالة.