الرئيسية / صوت النقابة / اتحاد الشغل: أزمة تخفي أخرى (الجزء الأول)
اتحاد الشغل: أزمة تخفي أخرى (الجزء الأول)

اتحاد الشغل: أزمة تخفي أخرى (الجزء الأول)

بقلم جيلاني الهمّامي

مرّ الاتحاد العام التونسي للشغل في تاريخه الطويل بسلسلة من الأزمات، بمعدل أزمة في كل عشرية تقريبا، تعتبر الأزمة الراهنة واحدة من أشدّها إن لم تكن هي الأشد والأخطر لاعتبارات كثيرة. ففي الأزمة الحالية “تظافرت” عوامل خارجية وأخرى داخلية زجّت بالاتحاد في مأزق يبدو الخروج منه مستعصيا بدرجة كبيرة.

الوجه الخارجي للأزمة

الوجه الأول من هذه الأزمة هو سعي السلطة إلى تصفية وجود الاتحاد. خاصية الهجوم تختلف جوهريا وكليا عن الهجومات السابقة التي تعرّض لها الاتحاد في عهد بورقيبة وفي الستينات والسبعينات والثمانينات وفي عهد بن علي وحتى في السنوات الأولى من عهد النهضة. كان الهجوم يهدف إلى تدجين المنظمة ووضعها تحت كلكل نظام الحكم للتخلص من الاحتجاجات والاطمئنان على السلم الاجتماعي وتمكين النظام الحاكم من سند اجتماعي منظم وقوي. ولم يكن مطروحا بالمرة في كل تلك الأزمات القضاء المبرم على الاتحاد كما هو مطروح اليوم في عهد قيس سعيد.

المطروح اليوم من وجهة نظر الشعبوية هو تصفية وجود الاتحاد تماما في إطار تصفية كل الأجسام الوسيطة، أحزابا ومنظمات وجمعيات، كركن من أركان التصور العام لكيفية إدارة شؤون المجتمع والحياة السياسية.

وقد تدرّج قيس سعيد منذ مجيئه إلى قصر قرطاج في مسعاه حتى وصل مؤخرا (7 أوت الماضي) إلى تحريك أتباعه لاقتحام مقر الاتحاد رافعين شعار “حل الاتحاد”. وكان قبل ذلك أرسى حالة من القطيعة بين “السلطات العمومية”، أي مؤسسات الدولية في كل مستوياتها المركزية والجهوية والمحلية، بما في ذلك رئاسة الدولة بشكل بات وجود الاتحاد وجودا شكليا لا أثر له في الحياة العامة.

هذا الوضع يتعارض مع ما ترسّخ في تجربة علاقات ما يسمّى “الأطراف الاجتماعية” في تونس، الدولة والأعراف والاتحاد العام التونسي للشغل. وتُعتبر التجربة التونسية في مجال الحوار الاجتماعي رائدة مقارنة بمحيطها العربي والإفريقي. ويعود ذلك فيما يعود إلى قوة الحركة النقابية ودور الاتحاد العام التونسي للشغل. وقد تُوّجت هذه التجربة بصدور العديد من التشريعات آخرها قانون الحوار الاجتماعي (قانون 2017 المتعلق بالمجلس الوطني للحوار الاجتماعي). وقد عمل قيس سعيد منذ مجيئه على شلّ هذه المنظومة التي استمرّت في العمل وفي تنظيم العلاقات الاجتماعية بين أصحاب رأس المال (بما في ذلك الدولة) وبين العمال.

ونتيجة لذلك تمّ تهميش الاتحاد الذي سُلب من كل صلاحياته في التفاوض حول الأجور والمنافع الاجتماعية الأخرى مثل تنقيح التشريعات (مجلة الشغل) ومراجعة الأجر الأدنى الصناعي والفلاحي وتوزيع زيّ الشغل والحضور في مجالس الإدارة في عديد المؤسسات وخاصة في الصناديق الاجتماعية.

وقد واجهت المنظمة النقابية بقيادة المكتب التنفيذي الحالي خاصة هذه السياسة بالاستكانة بل بنوع من الاستكانة ولم تردّ الفعل ممّا شجّع قيس سعيد وحكوماته على المضيّ قُدُما في سياساته تجاه الاتحاد. لذلك وكما سبق قوله غاب الاتحاد عن مسرح الأحداث تماما لا فيما يتعلق بالقضايا العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإنما حتى فيما يهمّ قضايا الشغالين الراجعة له حصريا بالنظر.

وقد وقع تفسير سلوك القيادة هذا بتخوّفاتها من إثارة ملفات فساد كثيرة تتعلق بالكثير من أعضائها ومن المسؤولين في الهياكل الوسطى القطاعية والجهوية. ولا يخلو الأمر من صحّة إذ المعروف على الكثير من أعضاء القيادة الحالية والقيادات السابقة ضلوعها في قضايا فساد ماليّة ومهنيّة.

وأوعز البعض الآخر هذا السلوك التفريطي للقيادة بالاختراق الذي حقّقه قيس سعيد للصفوف النقابية حيث لم يعد العديد من المعارضين النقابيّين يُخفون انتسابهم للتيار الشعبوي ومساندتهم “لمسار 25” وقد تقلّد أغلبهم مسؤوليات نقابية صلب المنظمة وكان بعضهم في الصف القيادي الأول (البوغديري مثلا).

لكن ومهما كان من أمر فإنّ قيس سعيد لم يتمكن من بلوغ هدفه في تحييد الاتحاد تماما من الساحة السياسية والاجتماعية لا بسبب صمود القيادة أو بقية الهياكل ولا حتى بسبب مقاومة القواعد العمالية وإنما لأنّ منظومته التي تتطلع إلى التخلص من المنظمة النقابية تعاني هي الأخرى من حالة وهن ولا تتوفر على القوة والشجاعة الكافية للدخول في حرب مفتوحة مع مكوّن ذي نفوذ قويّ في الذهنية العامة وفي الرصيد المعنوي الشعبي. وقد لاحظانا قوة الرد الذي لاقاه قيس سعيد يوم أوعز لقطعان “أنصار المسار”، الأمر الذي أجبره على مراجعة حساباته وتأجيل أمر الحسم إلى أجل آخر. وفي انتظار ذلك راح يعوّل على القيادة الحالية في مزيد تهرئة المنظمة النقابية التي تعيش منذ سنوات على وقع أزمة داخلية حادة ومن نوعية غير مسبوقة. وقد وجد قيس سعيد ما يسمح له بتطبيق قولته “سأتركها تتهاوى من تلقاء نفسها”.

الوجه الدّاخلي للأزمة

وهو الوجه الأخطر. وقد شهد في الأشهر الأخيرة تطورات خطيرة جدا لم يسبق أن حصلت من قبل. فبعد صراع كبير من أجل عقد المجلس الوطني في سبتمبر 2024 انتهى هذا الأخير إلى تصدّع واضح في صفوف القيادة. هذه القيادة التي كانت موحّدة حول مؤتمري سوسة (غير الانتخابي) وصفاقس اللذين تمّ فيهما تدبير الانقلاب على النظام الداخلي بغاية محو الفصل 10 الذي أتى به مؤتمر جربة سنة 2002 ولكنها سرعان ما دبّت في صفوفها الفرقة والانقسام. وقد تجسّم بشكل واضح في الانقسام إلى شقين في المكتب التنفيذي فيما يعرف بمجموعة العشرة ومجموعة الخمسة. على خلفية هذا الانقسام انقسمت هياكل الاتحاد من فوق إلى تحت. وأصبحت قائمة من القطاعات والجهات مع الخمسة فيما اصطفت مجموعة أخرى من القطاعات والجهات وراء العشرة. هذا الواقع مازال مستمرا إلى اليوم وسيظل كذلك حتى موعد المؤتمر القادم.

حصل الانقسام في البداية حول ضرورة عقد الهيئة الإدارية من عدمه إلى أن التأمت. ومن هناك انتقل الخلاف حول عقد المجلس الوطني الذي عند انعقاده أفرز أغلبية مع الدعوة إلى مؤتمر استثنائي وأقلية متمسكة بالمؤتمر في موعده العادي أي في بداية سنة 2027. وظل عدم الاتفاق على مخرجات المجلس الوطني يغذّي التباعد في وجهات النظر حتى “اضطرّ” مجموعة الخمسة إلى الدخول في اعتصام شتاء السنة الماضية للضغط على بقية المكتب التنفيذي من أجل أن يذعن لإرادة المجلس الوطني ويقبل بتعيين موعد المؤتمر الوطني الاستثنائي.

ثم من هناك ورغم حلّ الاعتصام وعودة الوئام ظاهريا في ربيع السنة الماضية فإنّ الاتفاق على عقد الهيئة الإدارية بعد أكثر من ستة أشهر من التعطّل لم يكن كافيا ليحلّ الخلاف ويفتح الطريق إلى اتفاق ينقذ المنظمة من تبعات هذه الأزمة.

وعندما انعقدت الهيئة الإدارية لتعلن على موعد المؤتمر القادم في مارس 2026 بناء على اتفاق مكتوب وقّعه كل أعضاء المكتب التنفيذي فقد تبيّن لاحقا أنّ ذلك الاتفاق تضمّن ألغاما انفجرت مؤخرا في الهيئة الإدارية التي انعقدت يوم 4 ديسمبر الجاري.

صورة الخلاف هو أوّلا أنّ الاتّفاق الحاصل إنما حصل على صيغة “المؤتمر العادي” التي اعتمدها مجموعة التسعة (أو مجموعة العشرة ناقص واحد) لإثارة بدعة جديدة هي “التحصين القانوني للمؤتمر”.

تمظهرات الأزمة الآن

دخلت المنظمة الآن في طور جديد من أزمتها عنوانها إعلان الأمين العام نو رالدين الطبوبي استقالته من الأمانة العامة ومغاردته مكتبه بعد إمضاء الوثائق اللاّزمة لدفع أجور عمال وموظفي الاتحاد وإرجاع “السيارة الوظيفية” الموضوعة على ذمته.

هذا هو العنوان الأبرز الذي يُخفي وراءه تناقضات وحسابات وأبعاد كشفت عنها الهيئة الإدارية الأخيرة والأيام التي تلتها.

يتبع

إلى الأعلى
×